الأحد ٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم سلامة عودة

تحليل النص جزء من تحليل الخطاب

تحليل النص جزء من تحليل الخطاب، معلقة امرئ القيس (المعلقة وقصيدته ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي)

المتأمل للقصائد الشعرية الجاهلية وسابر غورها يجدها تزخر بالمعاني والقيم، فلا غرو في أنها صنفت تحت مسمى المعلقات لجودتها ومتانة سبكها وحسن حبكها وجزالته، وتتسنم معلقة امرئ القيس هذا التراث الثقافي وتحظى باهتمام النقاد والباحثين، فقد حظيت بجملة من الدراسات والتحليلات الأدبية والرؤى النقدية حتى بات مطلعها على ألسنة العامة والخاصة، فما إن تذكر المعلقات حتى ينقدح في الذاكرة بيت امرئ القيس:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِل
بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُول فَحَوْملِ

وقف امرؤ القيس على الأطلال من خلال قوله : قفا ومن ثم بكى واشتكى، وبقراءة للبيت نجد الشاعر يبكي على فراق الحبيب لهذه الديار، ولكن السؤال الذي يقفز إلى الذكرة هو: هل الوعي الجمعي السائد كان يعرف تلك المعايير النقدية الانطباعية التي يفترض بالشاعر أن يعرفها فينسج قصيدته واقفاً على الأطلال ومن ثم يتطرق إلى الغزل قبل أن يلج موضوع القصيدة ، مما جعل العرب يصنفون هذه القصائد ضمن المعلقات، والناظر للبيت الشعري من حيث البداية ( قفا نبك) يجدها مكررة في قصيدة أخرى للشاعر (ألا عم صباحاً ...) ومطلعها:

قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَعِرفانِ
وَرَسمٍ عَفَت آياتُهُ مُنذُ أَزمانِ

وهنا حري بمن يحلل النص أن يخرج من دائرة النص المقتصرة على البيت الشعري الذي توسد منصة المعلقة ليحلل خطاب الشاعر في القصيدتين، فقد ورد في بيت المعلقة المنازل وبيت القصيدة الثانية الحبيب والعرفان والعرفان يتعلق بالفكر الصوفي ليستدرك الشاعر ويقول رسم قد امحت آثاره وتقادم عليه الزمن، إلا أن العرفان والحبيب والذكريات تبقى ذات طابع نفسي غرد بها الشاعر، ومن هنا نجد التجاذب بين النصين.

مفاتيح النصين

المفتاح الأول الذي وظفه الشاعر هنا هو (قفا نبك) وجعله يقود النصين ليحقق الانسجام التماسك بينهما، ولم يكتف بهذا المفتاح فقد وظف مفتاحاً آخر وهو وارد في المعلقة وظله في القصيده الثانيه، فقد شرع يقول:

وَقَدْ أغْتَدِي والطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَاِ
بمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأَوَابِدِ هَيْكَلِ
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً
كَجُلْمُوْدِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ

"وقد أغتدي "تعني" وقد أخرج صباحًا". يشير "أغتدي" إلى الذهاب في وقت الصباح، وتأتي من الفعل "اغتداه"، وهو ما يعني الذهاب في وقت الغداة أي الصباح الباكر. تُستخدم هذه العبارة لوصف الخروج المبكر للصيد أو الرحلات.

يخرج الشاعر في الصباح الباكر، والطيور ما تزال في أعشاشها، مستخدمًا فرسًا سريعة وقوية البنية تناسب ملاحقة الوحوش.

ووفق تحليل النص يكتفى بهذا التفسير لفكرة البيتين، بيد أن تحليل الخطاب يخرج خارج البيت الشعري ويحاور المفتاح الثاني الذي وظفه امرؤ القيس في البيت الشعري وتصدر لكن عجز البيت كانت إجابه عن السوال الذي جعله امرؤ القيس في معنى البيت العميق؛ ليملأ القارئ الفجوات عند انتاج النص، والسؤال هو:

لم يضطر هذا الملك أن يصحو باكراً ويمتطي صهوة جواده ويتجشم وعثاء السفر قبل أن تخرج الطيور من أعشاشها صباحاً، ثم يمتشق قلم فكره ليخط لنا هذا الوصف الرائع لفرسه؟

وخيل للشاعر أن المتلقى قد يذهب إلى اللهو والبذخ والترف فجعل صدر بيت المعلقة صدر بيت قصيدته الثانيه ويملأ بنفسه الفجوات فنجده يقول:

وَقَد أَغتَدي وَالطَيرُ في وُكُناتِها
لِغَيثٍ مِنَ الوَسمِيِّ رائِدُهُ خالِ
تَحاماهُ أَطرافُ الرِماحِ تَحامِياً
وَجادَ عَلَيهِ كُلُّ أَسحَمَ هَطّالِ

ووفق التماسك النصي القائم على التكرار وأهميته نجد التكرار هنا بهدف إلى إيصال رسالة الشاعر التي تقول: إن خروجي مبكراً بهدف البحث عن أمكان الرعي والماء والرحيل إليها قبل أن تداس من غريب، وهذه دلالة على المسؤولية والصفة التي يكتسي بها الشاعر الملك ويرفل بها.

أما الإحالة الخارجية فقد اكتحلت بها نهاية القصيدة وقد كشف عن سعة ثقافته واطلاعه على الثقافات الغابرة وبخاصة ملحمة جلجامش وتحديداً اللوح الحادي عشر منها الذي تناول فيها الطوفان وقد لخص مؤدى قصة الطوفان في آخر أبيات القصيدة فنجده يقول:
أحارِ تَرَى بَرْقاً أُرِيْكَ وَمِيْضَهُ
كَلَمْعِ اليَدَيْنِ فِي حَبِيٍّ مُكَلَّلِ
يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيْحُ رَاهِبٍ
أَمان السَّلِيْطَ بالذُّبَالِ المُفَتَّلِ
قَعَدْتُ لَهُ وصُحْبَتِي بَيْنَ حامر
وبَيْنَ إكام، بُعْدَمَا مُتَأَمَّلِي
فأَضْحَى يَسُحُّ المَاءَ عن كل فيقةٍ
يَكُبُّ عَلَى الأذْقَانِ دَوْحَ الكَنَهْبَلِ
وتَيْمَاءَ لَمْ يَتْرُكْ بِهَا جِذْعَ نَخْلَةٍ
وَلاَ أُطُماً إِلاَّ مَشِيداً بِجِنْدَلِ
كَأَنَّ ذُرَى رَأْسِ المُجَيْمِرِ غُدْوَةً
مِنَ السَّيْلِ وَالغُثّاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ
كَأَنَّ أباناً فِي أفانين ودقه
كَبِيْرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلِ
وأَلْقَى بِصَحْرَاءِ الغَبيْطِ بَعَاعَهُ
نُزُوْلَ اليَمَانِي ذِي العِيَابِ المحملِ
كَأَنَّ سباعاً فِيْهِ غَرْقَى غُديّة
بِأَرْجَائِهِ القُصْوَى أَنَابِيْشُ عَنْصُلِ
عَلَى قَطَنٍ، بِالشَّيْمِ، أَيْمَنُ صَوْبِهِ
وَأَيْسَرُهُ عَلَى السِّتَارِ فَيَذْبُل
وَأَلْقى بِبَيسانَ مَعَ الليلِ بَرْكَهُ
فَأَنْزَلَ مِنْهُ العُصْمَ مِنْ كُلِّ مَنْزِلِ

https://www.scribd.com

ملحمة جلجامس اللوح الحادي عشر نجد فيه علاقة غير مباشرة مع النص الوارد في المعلقة ، وبموازنة بين فكر امرئ القيس في القصيدة وما دار في اللوح الحادي عشر للملحمة السومرية يجد إشارات تدل على التناص الوارد في القصيدة والمستوحى من الملحمة.

وبهذا تتحق معايير الانسجام والاتساق في القصيدة من سبك وحبك وقصدية ومقبولية وتناص، ناهيك بالشهرة التي نالتها القصيدة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى