مصطفى العقّاد والرّسالة التي لم تكتمل
مصطفى العقاد(1930/2005) المخرج والمنتج السينمائي السّوري الأمريكي والعالمي الذي تعد قصة حياته وكفاحه مثالا للاجتهاد والمثابرة والنجاح، هذا الفتى ابن مدينة حلب الشّهباء الذي ظل لسنوات نكتة يتندر بها أهل حيّه حينما حدثهم عن رغبته في السفر إلى أمريكا لدراسة السينما ليصير من كبار مخرجي هوليوود،لكن الإصرار والرغبة الجامحة مع الطموح كل ذلك جعل الوالد يرضخ في آخر الأمر لرغبة ولده، ولم يجد ما يعطي لفلذة كبده وهو يهم بركوب الطائرة إلى أمريكا إلا ورقة من فئة المائتي دولارا ونسخة من القرآن الكريم.
لم يكن العقاد ابن البشوات أو الأعيان الكبار أو السياسيين المشهورين الذين سيجدون خدما وحشما في خدمتهم في مهجرهم، فالمائتا دولار هي كل ما استطاع الوالده تدبيره لولده،وأما القرآن الكريم فهي رسالة من الوالد بضرورة التمسك بالدين والهوية الوطنية وذلك ما استوعبه الفتى جيدا.
حطم مصطفى العقاد أسطورة كون هوليوود بعيدة عن العرب وآمالهم ورغباتهم وأحلامهم ،فقد استطاع النجاح في الدراسة بتفوق، كما عمل مع مخرجين عالميين مما أكسبه خبرة ودراية بفن السينما والإخراج، كما مكنته إقامته بأمريكا من النفاذ إلى جوهر الحياة الأمريكية التي يشبّهها بشركة ذات مساهمة، فالفرص كثيرة والمجال مفتوح واللّبيب من يحسن استغلال ذلك وتحويله إلى أرباح ليصعد في السلم الوظيفي والإبداعي ليستوي على قمة الشهرة العالمية والمجد.
لكن العقاد ابن حلب وسليل الحضارة العربية الإسلامية العريقة أدرك أن هناك أمانة ينبغي عليه أداؤها ورسالة يجب عليه تبليغها، فالأفلام التي كان مساعدا للإخراج فيها وعمل مع مخرجين عالميين، أوالتي أنتجها وحققت له شهرة في هوليود مثل سلسلة أفلام "الهالووين" يمكن القول إنها أفلام لأكل العيش وتدبير شؤون المعيشة، وهذه الأفلام ليست هي التي قربته من الجماهير العربية والإسلامية وجعلته محبوبا وعلقت عليه الآمال، إنما الأفلام العالمية التي أراد من خلالها أن يبلغ رسالة إلى العالم العربي والإسلامي وإلى الغرب نفسه مثل فيلمي الرّسالة وأسد الصّحراء: عمر المختار.
توجه العقاد إلى هذا النوع من الأفلام حين تزوج وأنجب أولادا فطُرح عليه مشكل الهوية واللغة والدين، تلك الثوابت التي يرغب عادة الآباء في تنشئة أولادهم عليها، إضافة إلى المكتسبات التي تمتزج مع المكون الأصلي في المهجر لتُشكّل هوية غربية عربية وأدرك أن مسؤوليته كرجل سينما تقتضي منه استخدام السينما لا كوسيلة للفرجة والتسلية فقط ولكن كرسالة للتربية والتثقيف، ولا ينبغي فقط رمي الثقل وإلقاء التبعة على المساجد والمراكز الثقافية الإسلامية في الغرب، بل ينبغي أن يضطلع رجل السينما بدوره، ومن هنا راودته فكرة أن ينتج فيلما عالميا ملخصا مسيرة الإسلام متجسدة في السيرة النبوية وجوهر الرسالة الإسلامية القائمة على الموعظة الحسنة والسلم والتسامح والتثاقف والتحلي بالأخلاق الحسنة في نسختين عربية وإنجليزية، فأما العربية فموجهة للعالم العربي والإسلامي، وأما النسخة الإنجليزية فموجهه للعالم غير المسلم، تشرح حقيقة الإسلام في كونه بعيدا عن العنف والإرهاب وأنه دين جاء لهداية البشرية.
وحشد لأجل تحقيق ذلك نجوما عربا وأجانب عالميين وبتقنيات سينمائية مذهلة ومساعدي الإخراج ومدراء فنيين وتقنيين عالميين وميزانية ضخمة تليق بعمل سينمائي عالمي خالد.
لكن كما يقول الشاعر القديم تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فهذا الفيلم بالذات تمت محاربته وقطعت عنه المصادر التمويلية المالية، بالرغم من كونه نال تزكية كبار العلماء بالأزهر الشريف والمجلس الشيعي الأعلى في لبنان وأثيرت حوله الشبهات، ولولا أن وجد العقاد في ليبيا سندا ومعينا لكان توقف بعد أن تم تصوير مشاهد عديدة في المغرب في ورزازات قريبا من مرّاكش.
صار التمويل ليبيا بحتا وانتقل التصوير إلى ليبيا وحقق الفيلم نجاحا كبيرا خاصة في العالم العربي والإسلامي بحيث يمكن القول بأريحية أن الفيلم غدا خالدا إلى ما شاء الله.
اعتمد العقاد على كاتب السيناريو العالمي هاري كريج والموسيقي العالمي موريس جار واحترم ما قدم في السيناريو إلى الأزهر الشريف والمجلس الشيعي الأعلى بلبنان في كون شخصية النبيّ والخلفاء الأربعة لا تظهر في الفيلم وهو ما جعل بعض الناقدين للفيلم يثيرون حوله شبهات التشيع، وهو أبعد ما يكون عن ذلك، مع أن قضية ظهور الخلفاء الأربعة قد تم تجاوزها اليوم كما شاهدنا ذلك في مسلسل عمر بن الخطّاب ،وانبرى كثيرون يعدّدون أخطاء الفيلم – وإن وجدت فالكمال لله وحده- فالهفوات لا تضر بمصداقية الفيلم ولا برسالته التربوية والتثقيفية، ويمكن القول إن فيلم الرسالة هو فيلم خالد سوف تظل الأجيال تستفيد من مضمونه وتستمتع بالأداء الفني ذي الجودة العالمية، ولنفس السبب سوف يظل مثالا للحوار الثقافي مع الغرب، فإذا أنتجت أفلام تسئ إلى صورة الإسلام أو العرب في هوليوود جئ بفيلم الرسالة لينقض الافتراءات التي أطلقتها هوليوود نفسها ،وهو مثال كذلك للدعوة بطريقة غير مباشرة حيث يصير الفن ذو رسالة يؤدي دوره في تهذيب النفوس وتربية الأجيال تربية مستقيمة.
وبعد الرسالة اتجه العقاد إلى الكفاح العربي في العصر الحديث فهناك ثورات عربية ضد الاستعمار واستبسال من قبل المقاومين العرب في الجهاد ضد الغزاة من الفرنسيين أو الإنجليز أو الطليان وهناك من الأبطال عزالدين القسّام ويوسف العظمة والأمير عبد القادر وعبد الكريم الخطّابي وعمر المختار، ثورات تندلع هنا وهناك رفضا للاستعمار وتمسكا بالحرية والهُوية والكرامة.
لقد أراد العقاد تحية هذه الثورات من خلال انتفاضة المجاهد البطل عمر المختار الذي حارب الطليان لعشرين عاما بلا هوادة وبإمكانيات بسيطة ،ورفض حين وقع في الأسر أن يشتري حياته من غراتسياني، فآثر الشهادة في سن الثالثة والسّبعين، وفي هذا الفيلم لايُطرح الجانب المالي في تمويل الفيلم مشكلة، فقد تكفلت ليبيا بذلك ولا مشكل الرقابة كما في فيلم الرسالة، وكالعادة استعان المخرج بجيش من التقنيين والخبراء والعتاد والحيل السينمائية من هوليوود نفسها لإنتاج فيلم تسند البطولة فيه لممثل غربي يعرف الغرب وجهه وكذا بالنسبة لبقية الممثلين ،إنه بهذا الفيلم يرد بطريقة فنية سينمائية على وصم الغرب للشرق بالإرهاب، فالإرهاب هو الاستعمار نفسه الذي قهر الشعوب وصادر أراضيها وقتل وشرد وسجن رجالها، وكان لهذا الفيلم من الشهرة والمهارة والاقتدار ما جعله فيلما عالميا بامتياز حتى إن البطل أنتوني كوين صرح في حديث معه على أنه من أحسن أفلامه ،وأنه يعتز كثيرا بأداء شخصية عمر المختار.
ومع تصاعد الموجة الكارهة للعرب وللمسلمين والحملات العدوانية الإعلامية من قلب هوليوود نفسها التي تدار ماليا من قبل لوبي صهيوني معادي للعرب وللمسلمين ولو اتجه إليها العقاد في تمويل فيلميه لرفضت، أو لتم إخراج الفيلمين كما تريد هي لا كما هي الحقيقة وكما يريد العقاد.
اتجه العقاد بعد ذلك إلى شخصية صلاح الدين الأيوبي ليمارس من خلال هذه الشخصية العظيمة حوارا فكريا وثقافيا مع الغرب وجهز السيناريو، فالحروب التي تعرف تاريخيا بالصليبية كانت في جوهرها استعمارا، فالمسيحيون العرب حاربوا إلى جانب صلاح الدين، ولعل في مسيرة صلاح الدين من الإسقاطات على الراهن ما يحمل رسائل عديدة، فالهجرة اليهودية إلى فلسطين وجرائم الصهاينة وتواطؤ الإمبريالية العالمية ورأسمالية السوق ضد الحقوق العربية بالتستر وراء الدين ،لكن المسألة في جوهرها هي استعمار وإحلال لمهجرين من أصقاع العالم محل السكان الأصليين.
تتشابه الحالة التي خاض فيها صلاح الدين حروبه ضد الصليبين مع الراهن العربي فالانقسام والتشرذم والوهن كانت الميزات الأساسية لكن صلاح الدين وحد وقوى الضعف، وحمى الأديان واستطاع تحرير بيت المقدس من الصليبين ليثير العقاد إشكالية تحرير القدس اليوم في حالة تشرذم العرب ووهنهم وانقسامهم وكأنه سيقول عبر الفيلم: "شيء من الغضب يا أمّه العرب"، وكان من المفروض أن يجسد شخصية صلاح الدين الممثل العالمي شون كونري.
ظل العقاد لسنوات وسنوات يطوف في أرجاء العالم العربي باحثا عن التمويل وكأنه يشحذ، وكم قدمت إليه الوعود ثم أخلفت، وكم طعن في الظهر ولكنه ظل مصمما على إخراج الفيلم بشروطه لا بشروط غيره، حتى إن بعضا من السياسيين العرب راودوه على إنتاج أفلام حول شخصياتهم مقابل التمويل ولكنه اعتذر عن ذلك لأن ذلك لا يخدم قضية العرب ، ولأنه لم يكن محتاجا لأحد في معاشه وطالما ردد المقولة الشائعة: (في الحاجة تكمن الحرية).
العقاد الذي طمح بعد إنتاج وإخراج هذا الفيلم عن صلاح الدين بمقاييس عالمية ،وطالما انتقد الفيلم الذي أخرجه يوسف شاهين ومثل فيه دور صلاح الدين الممثل القدير أحمد مظهر جعله يتعاطف مع ريتشارد قلب الأسد لا مع صلاح الدين وهذا الفيلم محلي لا يمكن أن يقاس بالفيلم الذي كان ينوي العقاد إخراجه، لو أمهل القدر المخرج الكبير لأداء مهمته.
وطمح العقاد إلى مواصلة رسالته بإخراج فيلم عن الأندلس وعن الحضارة العربية الإسلامية التي طالما أشاد بها وبإسهامها العلمي والفكري والحضاري وطالما انتقد المخرج يوسف شاهين على فيلم المصير فالتصفيق الذي قُوبل به الفيلم لمدة خمس دقائق في كان مرده إلى أن الغربيين وجدوا ما يريدون في إلقاء التهمة على المسلمين في إحراق مؤلفات ابن رشد وكأن الفيلم يؤكد ضمنيا ما في مخيال الغرب عن العرب والمسلمين ،فالعقاد لا يقدم للغرب ما يريده لقاء جوائزه بل يقول وجهة نظره حسب الوقائع والوثائق التاريخية.
أدرك العقاد أن المواجهة مع الغرب لابد أن تكون بالقوة الناعمة أي بالإعلام فمع امتلاك العرب لأموال قارون، لو أحسنوا استخدامها بالعقل والحكمة والتبصر لغيروا الصورة النمطية التي أشاعتها الصهيونية العالمية عبر إمبراطوريات الإعلام والسينما وعبر هوليوود ذاتها، لكن العرب فضلوا إنفاق المال الكثير على التسلح ولو أنفقوا 10 بالمائة على الإعلام لتحسنت صورتهم وواجهوا الصورة النمطية التي أشاعتها الصهيونية والاستشراق المغرض ولكان العرب في المخيال الغربي اليوم أبعد ما يكونون عن الجلافة والإرهاب والاستهلاك والتبذير، وهي الصورة المكرسة فنيا وإعلاميا عبر السينما والإعلام.
رحل العقاد شهيدا ذات خريف من عام 2005 وهو في عمان ينتظر وصول ابنته ريما إلى الفندق في عملية تبناها تنظيم القاعدة فماتت ابنته على الفور ولحق بها والدها بعد يومين.
هذا المخرج العالمي صاحب الرسالة التي أراد تبليغها في عالمنا العربي والإسلامي وتبليغها للغرب ذاته مكرسا عبر الفن ثقافة السلم والحوار والتثاقف والاعتزاز بالهوية العربية الإسلامية كتب عليه أن يقضي بيد الإرهاب، ولا داعي للدخول في تأويلات عن الحادث في غياب الأدلة، ولكنها في الواقع نهاية لطموح كبير ورسالة حضارية بالغة الأثر شاءت الأقدار أن تتوقف بموته الفجائعي والذي كان لرحيله الصدى العربي والإسلامي الكبير لأنه انطبع في الوجدان وفي المخيلة كلما ذُكرت السيرة النبوية عبر فيلمه الخالد الرسالة وكلما ذُكر الجهاد العربي في القرن العشرين ضد الاستعمار الأوروبي عبر فيلم أسد الصحراء :عمر المختار.
بقدر ما مارس العقاد عبر هذين الفيلمين العظيمين التثقيف والتنوير والتربية فضلا عن التوثيق التاريخي والفرجة مارس ضمنيا التحريض فكأن يقول - إننا العرب- أصحاب الحضارة العريقة لا نستحق هذا الموقع الذي وضعنا فيه أنفسنا اليوم ووضعنا الآخرون، فشيء من الغضب يا أمة العرب!
