الجمعة ٢٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥
بقلم نجاة بقاش

الرقص مع الرياح..

حين رآني أرقص مع الرياح.. أبوح للعالمين بآلامي والجراح.. استوقفه البيان، أيقونة العناد.. حسبها لعبة حظ عكس التيار.. خاطبني عاقد الحاجبين بامتعاض: "ويحك، ما هذا الترنح بين الألغاز والألغام".. ظننت رقصي سيوقظ نار الأشواق.. إذا به يشعل في قلبه شعلة الثوار.. لم يستهويه لا سكون الدجى ولا الأشعار.. بل راح يستهين بعمق الكلمات والظلال.. كيف لمن تغمره لعنة النسيان.. أن يستسلم قلبه لنبض الأحرار.. أرعبته لغة الرقص حتى.. كاد النكران أن يفقده الصواب.. قلت: "أنا خُلقت من نبع الجراحٍ.. وأنت من قلب الفراغ.. أنت تأبى أن تراني أراقص الرياح.. وأنا أريد أن أحضنها.. لا أن أصارع الرياح..

حيرته جرأتي.. حيرني النكران.. وهل يليق بعابر سبيل.. طرح مثل هذا السؤال؟.. سجل يا ناكر المعروف حتى لا يغشاك النسيان.. "أخذت بيدك حينما ألقت بك هنا الأقدار.. وتنكر لك الأهل والأصحاب.. وجفت في عينيك كل المنابع والأنهار.. كيف تصرخ اليوم في وجهي: "من تكونين؟ من أي الأقوام"؟.. أنا من دفعت ثمن ثقتي بك والإيمان.. حتى تكسرت النصال على النصال.. وجعلت من أيامنا آية من آيات عجاف.. انا التي سكنت في معصمي اللآلئ والمرجان.. وانهار عند قدميها الخيلاء والأقمار.. أقسم بالله وبالفرقان.. بسببك فقدت متعة العيش في الأوطان.. نجوت من أمصار البراري ولم أنج من شر بني الأنذال.. ما زلت أحتمي بظل أوراق الرمان.. أحمل قلب أجدادي محملا بالأثقال.. أبحث عن وطنٍ مغتصب.. داسته الأقدام والنعال.. وطن يعرفني.. يغمرني.. يحضنني.. كما تحضن الأوكار الطير الوروار.. يعشقني حد الانصهار.. حد الهذيان.. قاطعني مباغتا: "لما التشبث بالأحجار.. لما الزئير والقوم نيام.. أرض الله واسعة دع الذكرى وخذ الترحال.. قلت له متفاجئة: "لا ترغمني على الهجران.. بقائي حتمي يا حقدان.. سوف أستعيد فيك وجدا يخطف الأنظار.. تستعيد فيك الأقدار رفعتها ردا للاعتبار.. لا تسألني من أي الأقوام.. فالأرض أرضي أحكمها بما يمليه البيان.. ما جدوى وجود يعاش بامتعاض.. إذا كان قلبك لا ينوي السماح.. فقلب الزمان كفيل بأن يداوي الجراح.. إذا كانت عيناك تخشى العناد.. عيناي تعشق الرقص.. محرر الأعتاق..

حين رآني أرقص مع الرياح.. راح يصيح حتى ارتد الصياح.. "كفاك تموجا والعناق.. فالرقص في عقيدتنا غير مباح.." قلت له: "بعد أن أصبحت الشرارة في دمي عنوانا.. لا تبحث عن ارتداد تظنه متاحا".. سئمت ليل القنوط.. سئمت انتظار البزوغ.. بات الصمت يقلقني.. وحده الرقص يحاورني.. يؤنسني.. يوقظني.. يسوقني نحو وجهة غير وجهتي.. الآن، قررت أن أستفيق.. أن أغير بالمد آفاق القصيد.. أن أحيي الكيان حتى يستعيد.. رقصي بهاء الزمن الجميل..

لا تخيرني بين هذا وذاك.. فاللذين يملكون الأرض لا يطلبون الإذن بالبقاء.. أنا صوتُ الأرض حين يضيق صدرها، تفيض.. حين يتواطأ الزئير مع الصمت، تصيح.. هنا وُلدتُ، هنا رقصت، وهنا -إن كان- الرحيل.. حين يعجز السيف عن مصافحة الجريح.. يكون الرقص مع الرياح هو الأعمق والبديل.. حتى وإن قاتلتني.. انا لا أهدد بالرحيل.. سوف أقاوم.. حتى تفهم الأقدام أن.. تحرير الأرض ليس علي بالأمر العسير..

حينما أرقص.. أصير راقصة بقوة الرياح.. أسأل نفسي: من أكون في قلب الإعصار.. أميرة الحزن أنا؟.. أم مُناضِلة الأمل والديار؟.. أدرك حينها أن كل الأسماء لا تليق بي.. كل الأمكنة تضيق بي.. وحده التمرد يسعني..

حين أرقص مع الرياح.. يلاحقني السنونو في السماء.. يعلن بيان وجودي في ثبات.. أفتح بابا من أبواب النجاة.. أغلق أخرى تترصد خلف الجدران.. تأمل جيدا الحرف الذي ينسج كلماتي.. لن تدفن قصيدتي في صمتي.. ولا تذكّرني أنّ الإنسان فان.. فما ماتَ من نبضُهُ من نبع الخيال.. لا تحاول رجاء.. فالغياب لن يوقع نهاية الأشعار.. بعضُ الكلماتِ تُضيءُ الدجى.. وتشقّ السبيل في عز الظلامَ.. قد أغيبُ.. وقد يغيب من كتبَ الحزن على جبين الأحرار.. دمعَي سيبقى شاهدا على خدِّ الزمانٍ.. يروي.. ويروي.. يموتُ الإنسانُ.. نعمْ.. لكنّ القلبَ الذي يحفظ الود يبقى.. كلّما هبت رياح الآمال.. لا تقل: "رحلت".. بل قل "غضبت" "رفضت"، «صرخت"، «صمتت"، "انصرفت"، ثم "رقصت".. وهل يرحل من كان مع الرياح.. يرقص.. بل ينتفض؟"..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى