الجمعة ١٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥
بقلم غدير حميدان الزبون

همسةُ مساءٍ في إحدى ليالي الشِّتاء

في تلك الليلة التي انحنى فيها القمرُ فوق المدينة كشيخٍ أنهكه الحنين، كانت الريح تمرُّ بين الأزقّة مرتجفة واجفة تبحث عن اسمٍ ضاع منها منذ الخريف. الليل باردٌ حتى أنفاس الزجاج تجمّدت، لكنّ نافذةً صغيرة عند طرف الحي بقيت مُضاءة، كأنها ومضة قلبٍ يقاوم صمت الشتاء.

جلستْ هي قرب المدفأة، تلفُّ كتفيها بشالٍ صوفيّ بلون الغيم، وتراقب بخار الشاي وهو يصعد ببطء على هيئة رسالة غير مكتملة.

رفعتْ رأسها نحو النافذة، فرأت المطر يطرق الزجاج كطرق العشّاق باب الذكرى.

ابتسمتْ ابتسامةً خفيفة، وقالت لنفسها:

ما أجمل أنْ يأتي المساءُ حاملًا ظلالَه دون أن يعتذر عن البرد.

كان كلُّ شيء في الغرفة يهمس: رائحة الخشب المتّقد، أصوات قطرات المطر، وارتجافة الضوء على الجدران حتى الصمتُ بدا وكأنه ينسج حولها غطاءً من الطمأنينة.

فتحتْ دفترها العتيق، ذلك الذي خطّت على صفحاته أحلامًا لم تكتمل، ومخاوف تلاشت مع الزمن، وقرّبت القلم من الورق، ثم كتبت:

"في ليلةٍ كهذه، لا يحتاج القلبُ إلى الكثير؛ يكفيه أنْ يشعر بأنه ما زال قادرًا على الدفء، رغم عتمة الطريق".

يكفيه أن يتذكّر صوت أمّه التي أحبّها حدّ التعب، أو وجهًا مرّ بين الغيم ورحل، ليشتعل من جديد.

وأغمضتْ عينيها لحظة، فسمعت وقع خطواتٍ قديمة تأتي من بعيد—خطواتٍ عرفتها ذات زمن.

لم يكن أحدٌ يدخل الغرفة، لكنّ الذكرى دخلت واستقرّت قربها كما تستقر النار في قاع الحطب، وقالت لها بصوتٍ لم يصدقه الهواء:

"ما زال الشتاء يعرفك، وما زال المساء يترك لك مكانًا على ضفة الدفء".

فتحت عينيها، ولم تجد أحدًا.

لكنّ الدفء كان هناك—ممتدًا بين قلبها والنافذة—يضيء الليل كما لو أنّ الحبَّ مرَّ همسًا، ثم اختفى.

وهكذا، في مساءٍ شتويٍّ واحد، تذكّرتْ أنّ أجمل ما في الحياة ما يمرُّ في قلوبنا بخفّة ثم يترك أثرًا لا يذوب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى