الاثنين ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥
بقلم غدير حميدان الزبون

«قمرٌ على هذا التراب» لسائد أبو عبيد

يأتي ديوان "قمرٌ على هذا التراب" للشاعر الفلسطيني سائد أبو عبيد تجربة شعرية تشتبك مع الذاكرة الجمعية والخيال الأسطوري والوجدان الوطني، وتُعيد إنتاج العلاقة بين الذات والأرض من خلال لغة مكثفة، وصور رمزية تتكئ على البعد السيميائي أكثر مما تتكئ على الوصف المباشر.

فالنصوص في ديوانه هي حقول من العلامات التي تتجاور، وتتنافر، وتتماهى، وتتصارع ضمن بنية دلالية مركّبة تشكّل الشخصية النصية للشاعر.

لقد أثبتت التجربة الشعرية الفلسطينية، عبر أجيالها المتعاقبة، أنّ القصيدة هي مشروع وعي وهوية، وتؤكد هذه العبارة أنّ الشعر الفلسطيني كان وما زال مشروعًا ثقافيًا ووجدانيًا متكاملًا يعكس وعي الإنسان الفلسطيني وهويته الوطنية.

فالتجربة الشعرية، عبر أجيالها المختلفة، تحمل ذاكرة الجماعة الفلسطينية، وتوثّق تجاربها التاريخية من النكبة إلى المقاومة، مرورًا بالنكبات اليومية للصمود والاحتلال.

فالقصيدة الفلسطينية تتجاوز الجمال اللغوي لتصبح مرآةً للهوية والوجدان، إذ ينغمس الشاعر في صراعات الأرض، وفي أمل العودة، وفي تمسكه بالتراث، لتصير الكلمات جسورًا بين الفرد والمجتمع، وبين الحاضر والماضي، وبين الألم والأمل.

وكلّ جيل من الشعراء الفلسطينيين، بدءًا من محمود درويش وغسان كنفاني، مرورًا بالشعراء الشباب، يساهم في صياغة مشروع الوعي الجمعي، الذي يربط النص بالشعب، وبالأرض، وبالذاكرة الجمعية، ويحوّل القصيدة إلى خطاب مقاوم ومجتمعٍ مصغرٍ داخل البيت الشعري.

بعبارة أخرى، القصيدة الفلسطينية صوت يعانق الأرض، ويحتضن التاريخ ويصوغ الهوية.

إنها شكل من أشكال المقاومة الثقافية التي تصوغ ذات الإنسان الفلسطيني عبر الكلمة، فتصبح القصيدة شهادة وجدان وصرخة وطنية في آنٍ واحد.

في هذا السياق، يندرج ديوان "قمرٌ على هذا التراب" بوصفه نصًا يتجاوز الحدود التقليدية للشعر المعاصر، ليمزج بين الرمز والاستعارة والأسطورة والسرد الداخلي، وينسج شبكة دلالية تجعل المتلقي مشاركًا لا قارئًا فقط.

يمتاز ديوان "قمرٌ على هذا التراب" الصادر عن الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين – رام الله (2025) بفرادته الجمالية والبصرية والنصّية، فهو عمل لا يُقارب الشعر فقط بوصفه لغة، وإنّما بوصفه مشروعًا فنيًا كاملًا تتضافر فيه العلامة البصرية مع العلامة اللغوية لخلق فضاء دلالي أرحب.

يبدأ تميّز الديوان من غلافه الأمامي المأخوذ من لوحة للفنانة الهولندية بيانكا فاندِجك، وهي لوحة تتكامل مع الروح الرمزية للنصوص، حيث تحضر الأنثى/الأرض بوصفها مركز الضوء والخصب والحياة.

وقد أُنجز الإخراج الفني للعمل بمهارة المبدعة سناء صباح التي منحت الديوان طابعًا بصريًا راقيًا، يتناغم مع عمق المضامين السيميائية.

ويمتد الديوان على 248) صفحة)، ويُستهلّ بإهداء رقيق مُوجَّه إلى عشتار الأرض الفلسطينية وكنعانها الباقي، وإلى كلّ الأيادي التي تشير لمشتهَاها كي تفكّ عنها القيد لانتصارٍ وما يئستْ بليلٍ في انتظار.

وهذا الإهداء هو عتبة رمزية تكثّف رؤية الشاعر للعلاقة بين الأرض والخصب، وبين الشعب وانتظاره الأبدي للحرية.

يلي الإهداء استهلال شعري يوثّق فيه الشاعر لذاته المنفردة بـالعزف على أوتار شآبيب الصمت، والارتحال نحو الصمت والعودة إليه، بما يجعل الاستهلال بيانًا شعريًا لرؤية الشاعر الوجودية.

أما المتن فيضم إحدى وستين قصيدة تزهو بجمالها وتتماهى في وحدة موضوعية تقوم على معاودة تشكيل الأرض، والجرح، والأنثى، والضوء في صور شعرية ذات طاقة رمزية عالية، لتقدّم تجربة شعرية متكاملة تستحق التوقّف والقراءة والتأويل.

تهدف هذه المقالة إلى تقديم قراءة نقدية سيميائية ممتدة، تضع الديوان ضمن سياقات ثلاث:

سياق التجربة الشعرية الفلسطينية المعاصرة،

سياق الدلالة بوصفها جوهر النص،

وسياق التحليل السيميائي الذي يكشف آليات إنتاج العلامة الشعرية.

أولًا: الشاعر سائد أبو عبيد — الذات وتشكّل الخطاب.

يمثل سائد أبو عبيد نموذجًا للشاعر الذي ينتمي إلى وعي التجربة لا إلى وعي الخطاب وحده. فهو شاعر يكتب من داخل اللغة، لا من خارجها، ويحرص على بناء عالم شعري لا يعيد إنتاج الواقع بقدر ما يُعيد تأويله.

إنه شاعر الجرح والأنثى والتراب والماء، شاعر يتعامل مع الكلمة كأنها طقس، ومع القصيدة كأنها بيت يليق بالوطن.

يميل أبو عبيد إلى استخدام اللغة بوصفها نظامًا من الأيقونات، فكل كلمة في نصوصه يمكن قراءتها ضمن طبقتين: طبقة المعنى المباشر، وطبقة المعنى الإيحائي الذي يفتح الباب على شبكة واسعة من الدلالات.

وهذا ما يجعل نصوصه تتجاوز البعد الغنائي نحو البعد الرمزي–الأسطوري، حيث تتشكل الأرض بوصفها أمًّا، والجرح بوصفه هوية، والأنثى بوصفها وجهًا آخر لفلسطين.

ثانيًا: بنية الديوان — هندسة المعنى وتشكّل العلامة.

يضم الديوان مجموعة من النصوص التي تتحرك ضمن فضاء دلالي مشترك، رغم اختلاف موضوعاتها الظاهرية.

فالعناوين، مثل:

"أنا والنهر"، و"لغة البندقية"، و"عشبة الروح"، و"جليل نزفنا"، و"في غزة"، و"دوائر الحياة"، تشكل "عتبات سيميائية" تمنح المتلقي مفتاح الدخول إلى عوالم النص.

أمّا العنوان الرئيس "قمرٌ على هذا التراب" وهو عنوان لإحدى قصائد الديوان والتي استحوذت على ست عشرة صفحة من الديوان، ويُعدّ أهم اشتغال سيميائي في الديوان، فهو يقوم على علاقة ثلاثية:

القمر: رمز الضوء، والعلوّ، والحماية، والصفاء.

التراب: رمز الأرض، والجذر، والجسد، والذاكرة.

فعل الارتكاز (على): علاقة إشراف، ورقابة، وقداسة.

هذه العلاقة تجعل القمر عنصرًا رؤيويًا يراقب الأرض، كما لو أنّ الشاعر يعيد إنتاج العلاقة الكنعانية القديمة بين السماء والمكان، حيث القمر ليس كائنًا فلكيًا بل كائنًا روحيًا.

ثالثًا: سيميائية الأرض — التراب بوصفه جوهر الهوية.

الأرض في هذا الديوان خرجت عن نطاق الجغرافيا إلى البنية الوجودية، إذْ تتحول الأرض إلى مجاز يحافظ على الوظائف التالية:

الذاكرة:

فالتراب هو مخزن الطفولة، والحنين، وصوت الأم.

الجسد:

فالأرض تصبح امتدادًا لجسد الشاعر، فتغدو الأعضاء والأشجار جزءًا من الموروث الحي.

الهوية:

فالتراب في النص هو علامة هوية، تشبه ما يسميه «إيكو» العلامة الثقافية.

القداسة:

تتكرر مفردات "المصلّى، والتربة المباركة، والجليل، الشهادة"، ما يربط التراب ببعد روحي مقدس.

بهذا تكون الأرض علامة كبرى تعلو كلّ العلامات الأخرى، وتشكّل "المرجع النهائي" لكل الدوال.

رابعًا: سيميائية الجرح — من الألم إلى البعث.

يُعدّ الجرح في الديوان علامة مركزية توازي علامة الأرض.

غير أنّ الجرح هنا يتجاوز معنى الإصابة، ليصبح:

مستودعًا للذاكرة
روايةً شخصية وجمعية
بنية رمزية تُنتج اللغة
صرخة مقاومة
فالجرح عند أبو عبيد فاعل دلالي.

إنه جرح "ينبض"، و"يكتب"، و"ينزف ضوءًا"، و"يفتح نافذة"، وهي استعارات تمنحه إرادة وحياة.
وفي هذا السياق، يقترب الشاعر من البنية الملحمية حيث يتحوّل الجرح إلى بطل أسطوري.

كما أنّ تكرار الجرح يرتبط بنمط ما يسميه غريماس "المربع السيميائي":

الألم ↔ المقاومة
الموت ↔ البعث

وبذلك يتحرك الجرح داخل النص كعلامة للقيامة المستمرة.

خامسًا: سيميائية الأنثى — العاشقة بوصفها تجسيد الوطن.

في الديوان، تتخذ الأنثى ثلاثة أدوار:

الأنثى–الحبيبة

التي تمثل مرفأ الروح وواحة العاطفة.

الأنثى–الأسطورة (عشتار)

التي تمنح الأرض خصبًا وقوة واستمرارية.

الأنثى–فلسطين

التي تظهر في صورة أمّ، وشهيدة، وعاشقة، وظلال لانهائية من الوجع.

إنّ صورة الأنثى مُشبعة بالرموز: نور، وماء، ونهر، وشجر لوز، وظل، ووشم، ومرآة.

ووفق المنظور السيميائي، فإنّ الأنثى هنا ليست "موضوعًا غزليًا"، إنما هي محرّك دلالي يخلق المعنى ويعيد توجيه الذات نحو الأرض.

سادسًا: سيميائية القمر — علامة الضوء والحراسة.

يتكرر القمر كعلامة مركزية في النصوص، ويؤدي عدة وظائف:

وظيفة روحية:

فالقمر عين عليا تراقب وتضيء.
وظيفة وجدانية:
فالقمر مرآة للعلاقة مع الأنثى.

وظيفة أسطورية:

فالقمر يستدعي الإرث الكنعاني الذي كان يربط النور بالخصب والحياة.

ويتحول القمر غالبًا إلى ضوء يقهر الظلام، وهي دلالة تُظهر الصراع بين النور والليل بوصفه صراعًا بين الحياة والاحتلال، وبين الوجود والفناء.

سابعًا: سيميائية الماء والنهر — العبور والشفاء.

الماء في الديوان علامـة تُجسّد:

الطهارة
الشفاء
الذاكرة
الحنين
عودة الروح إلى أصلها

وفي نص "أنا والنهر"، يتجسد النهر كـ ذات موازية للشاعر، يتجاور معه، ويحاوره، كما يتقاسم معه الوجع.

هذا التوازي يشبه ما يسميه بيرس العلامة الأيقونية، حيث يصبح النهر صورة لداخل الشاعر.

بهذا يتحوّل الماء إلى رمز "العودة"؛ عودة الروح، وعودة الذاكرة، وعودة الوطن.

ثامنًا: سيميائية الحرب — الظلّ القاسي للعلامة.

باتت الحرب في الديوان شخصية لغوية.

فهي "تجتث الحقول"، و"تصهر الأشجار"، و"تنطح القمر"، و"تسقط فوق القمح".

هذه الأفعال تحول الحرب إلى كائن مدمّر يشتبك مع الطبيعة والإنسان، حتى تتولّد بنية دلالية توضح أنّ الحرب هي نقيض الحياة.

غير أنّ الشاعر يواجه الحرب بعلامات مضادة:

القمر
الماء
المرأة
التراب
الجرح

وتظهر هنا "دينامية الصراع السيميائي"، حيث تنتصر العلامة البيضاء — مهما كانت ضعيفة — على العلامة السوداء.

تاسعًا: الإيقاع بوصفه علامة — الموسيقى الداخلية.

لا يتعامل الشاعر مع الموسيقى من منظور عروض، بل من منظور الإيقاع الداخلي:

التكرار
الجمل القصيرة
تنغيم الجملة
التوازي
الانقطاع المفاجئ
التراكم الدلالي

هذه الأدوات تولّد موسيقى نفسية تعبّر عن القلق، والهدوء، والانكسار، أو الاندفاع.

فالإيقاع في الديوان هو علامة انفعالية، تُجسّد العاطفة قبل أنْ تُسمَع.

عاشرًا: الديوان بوصفه سردية سيميائية كبرى.

يمكن النظر إلى الديوان ككلّ بوصفه سردية رمزية تتكون من ثلاثة محاور:

1. محور الهوية
حيث تتشكل فلسطين من الأرض والجرح والمرأة.
2. محور الوجود
حيث تتصارع الحرب مع الضوء.
3. محور الخلاص
حيث يتحوّل القمر والماء والأنثى إلى مخارج للروح.

هذه السردية تتقاطع في فضاء لغوي يقوم على الذاكرة والهوية والحنين.

وفي الختام يدرك القارىء الحاذق المستبصر أنّ ديوان "قمرٌ على هذا التراب" للشاعر سائد أبو عبيد يعيد تشكيل التجربة الفلسطينية داخل بنية سيميائية مركّبة، تمنح القارئ نصًا مشبعًا بالرموز، مفتوحًا على التأويل، وواسعًا في دلالاته.

فالأرض ليست أرضًا، بل جسدٌ وهويّة.

والأنثى ليست امرأة، بل وجه الوطن.

والجرح ليس ألمًا، بل طريق نحو المعنى.

والقمر ليس كوكبا سماويًا، بل حارسًا للتراب.

والماء ليس ماءً، بل سيرة ذاتية لروح تبحث عن خلاصها.

بهذا المعنى، يتحول الديوان إلى نصّ يتجاوز حدود الشعر إلى منطقة الأسطورة والتاريخ والذاكرة، حيث تتشابك العلامات لتعيد تشكيل العالم وفق رؤية شاعر جعل من القصيدة مشروع حياة.

المصادر والمراجع:

أ. ج. غريماس، في سيميائيات السرد والخطاب، ترجمة محمد خطابي، دار توبقال، 1994م.
أمبرتو إيكو، نظرية السيميائيات، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2010م.
تشارلز ساندرز بيرس، السيميائيات والمنطق، منشورات جامعة إنديانا، 1998م.
رولان بارت، لذّة النص، ترجمة منذر عياشي، دار الحوار، اللاذقية، 1997م.
سائد أبو عبيد، ديوان قمرٌ على هذا التراب، إصدارات الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، النسخة الشعرية الكاملة، فلسطين، 2025م.
عبد الملك مرتاض، في نظرية القراءة والتأويل، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2005م.
فرديناند دو سوسير، محاضرات في اللسانيات العامة، ترجمة يوسف وغصوب، القاهرة، 2004م.
محمد مفتاح، دينامية النص، المركز الثقافي العربي، 1988م.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى