الثلاثاء ٣٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٥

قراءة في قصيدة (ومات قيس)، لليلى أورفه لي

إبراهيم محمد كسار

قراءة في قصيدة (ومات قيس)
الشاعرة المبدعة ليلى أورفه لي
إبراهيم محمّد كسّار

يمكن قراءة هذه القصيدة قراءات متعدّدة، ذلك لأنهّا تحتفي بالرموز والإيحاءات المختلفة غير المتناقضة، بحيث يقود المعنى الأوّل إلى المقصد والمعنى الثاني، ويتداخلان في نسيج فنيٍّ ناجح.

ولعلنّا نبدأ من العتبة النصّيةّ وعنوان القصيدة (ومات قيس)، حيث تلفتنا تلك الواو، التي يعربها النحاة "حسب ما قبلها"، وهي تشير بوضوح إلى أنّ ثمّة كلام كثير قبل ذلك، وقد اختصر تكثيفاً لقصّة طويلة، وأحداث جمّة. وتبدأ اللعبة الفنيّة حيث إنّ الفعل (مات) يحمل معناه الحقيقيّ بالإضافة إلى معان مجازيةّ أخرى، تبدأ بالموت والفناء، وتنتقل لتشير إلى موت الفعاليةّ أو الرجولة، وأيضاً توحي بالغياب، وتحمل ظلال الانسحاب أو الانهزام أو الخيانة.

وإذا تساءلنا عن قيس هذا تواردت إلى عقولنا مجموعة احتمالات للإجابة، فهو الإنسان العربيّ بعامّة، وهو المحبّ العاشق لليلى، وهو - كما سيظهر بعد قليل في النصّ - امرؤ القيس الشاعر الجاهليّ، وهو الرجل السوريّ في محنته الأخيرة، وهو أيضا يحمل نقيضه أو نصفه الثاني المرأة العربيةّ العاشقة، والإنسانة المصابرة، والأرض العطشى المنتظرة أبناءها.
بنيت هذه القصيدة على خمسة مقاطع، جاء بعضها في خمس شطرات قصيرة، وبعضها في خمس عشرة شطرة، وبعضها في عشرين. وقد جمعت الشاعرة بين الخاصّ والعامّ، والذاتيّ والموضوعيّ، والمادّيّ والمعنويّ، والواقعيّ والخياليّ. فلقد بدأ المقطع الأوّل بالذاتيّ، حيث ظهرت ياء المتكلمّ (قلبي) في مطلع النص حيث نقرأ:
[لقيس قلبي الموشّى]، ثمّ تغيب ياء الشاعرة في المقطع الثاني لتظهر ياء المتكلمّ لقيس الذي ينادي محبوبته ليلى، نقرأ:
[ليلاي/ اليوم خمر وأمر/ فاستريحي]. وتعود الذات الشاعرة وياء المتكلمّ في المقطع الرابع، بعد غيابها في المقطع الثالث، فنقرأ:
[وينهض قلبي/ مع أزقةّ المدينة]، وتتجلىّ الذات /الأنا بوضوح في منتصف المقطع حيث تقول الشاعرة: [وها أنا حبلى/ بالياسمين حبلى]، وتعود في المقطع الخامس ياء المتكلمّ فنقرأ قولها: [عيناي تقبض على حبل مرساة الوقت]، وأيضا تظهر الذات في الفاعل المستتر مع الفعل: [أصليّ على هسيس الحلم فاتحة الشعر]، ولا بدّ أن أشير إلى أنّ ضمير المتكلمّ لم يكن - عبر النصّ - مقتصرا على الذات الشاعرة صاحبة النصّ، بل حمل أيضا كينونات لشخصياّت أنثويةّ أخرى، لتكون معادلا للذات في معاناتها مع واقعها الأليم، وغياب قيس/ الرجل عنها.

إنّ نصّ (ومات قيس) قائم على إدانة ضمنيةّ لقيس الذي مات، أوغاب عن قلب حبيبته حيناً، وعن وطنه حيناً آخر، فهو قد نسي رجولته وعزيمته، وبدا ضعيفاً محموماً تقول الشاعرة: [يختال برجولة مزعومة، مستجيراً تيها بالضلال/ ليردّ مُلكا].
لكنّ النصّ أيضا يقف إلى جانب قيس المعذّب، فهو - كما تقول القصيدة - : [وقيس على تخوم/ مستنقعات الرمال/ مستعيذا بالوهم/ محموما بعباءة الضياع]، وتقترب شخصيّة قيس في القصيدة ليكون امرأ القيس الذي يحاول الثأر لأبيه / وهنا يكون الثأر لبلاده ولحبيبته، ولكنهّ يعاقر الخمرة كما فعل في الماضي، ويطلب من ليلاه مجاراته، ريثما يحين موعد ثأره، ويبدو غير قادر على الثأر، بل يطلب من ليلى أن تبقى في هجير الغربة والمنفى، فهو لا يقوى على إعادتها إلى البلاد ،نقرأ: [فاستريحي في صهبة الخمرة/ ظليّ غافية في فيء المنفى/ ولعينيك سأرد المُلك].

وتتصدّر عبارة (مات قيس) المقطع الرابع تقول: [مات قيس/ والحلم/ يزحف على تخوم الخوف/ تنسج فيه الهواجس/ أقماط الوهن]. إنهّ قيس العربيّ المعاصر لم يعد يقوى على فعل شيء في واقع يضجّ بالخوف والانكسارات.
ويشرق الأمل على يدي الأنثى، فالحلّ ههنا في قلب المرأة التي تقابل المدينة /الوطن، وهي تقرأ أوجاع الناس، وتقرع أبواب المستقبل، يرافقها المطر تحتفي بولادات الخير، وهي حبلى بالياسمين رمزا للحياة والنقاء، ورمزا لسورية ولمدنها، و تشقّ صقيع الوقت، وتضيف الشاعرة عنصراً آخر يشتجر مع الأنثى الخلّاقة إنهّ الشعر، فالقصيدة تجدّد الحياة، وتبث الروح في الموات المنتشر عبر الواقع، وتبرق شتلات التفاؤل عبر قولها: [وتحت الجليد ثمّة حياة تتجدّد/ سيخرج رأس من عتمة البرد/ ثمّة سماء ونداء وضياء/ وأناشيد الفرات/ قاب خطوتين من ارتعاش لذّة الولادة]، لا يمكن تجاهل المقاصد السياسيةّ الشفاّفة في هذا المقطع، الذي تبدو فيه الشاعرة وقد أعملت الفكر والعقل إلى جانب التخييل والفنّ ، وهكذا تتجلىّ الأنثى الشاعرة، وهي ترسم من ظلال القصائد بهجة المحبةّ وبياض الياسمين، في ولادة جديدة للإنسان العائد من الموت والجفاف إلى الخصب والحياة ،نسمعها تقول: [ وأتلو ما تيسّر من ملحمة الحياة/ كيف عاد الخصب إلى رحمي/ الموصد بالأزهار والزنابق، وكيف أعادني شفير الموت/ إلى بساتين القصائد/ وكيف صار الياسمين/ في أحشائي توءما ].
ولنا أن نستنتج أننّا نقف بكلّ جمال أمام شاعرة تعرف كيف تنتصر للأنثى، وتعيد إليها نضارة الإنجاب لكلّ ما من شأنه إعادة الحياة، فتسترد كينونة المرأة وعنفوانها وفعاليتّها، مقابل الرجل الغائب/ المنسحب.

ولنا أن نقول: إنّ هذه القصيدة بقدر ما اهتمّت بالمضمون، وبنت جملها وعباراتها عبر سلسلة مدروسة من الفكر والرؤى، بقدر ما اهتمّت كذلك بالشكل، وأعني به التخييل والتصوير، حيث نقرأ الكثير من الانزياحات الفنّيّة والصور البيانيةّ المدهشة، ولعنّا نذكر بعضاً منها: [تلال الخيانة- عباءة الضياع – فيء المنفى – تخوم الخوف – أقماط الوهن –عتمة البرد – مرساة الوقت – شرايين الحروف] وغيرها كثير.
وأخيراً لا أبالغ إذا قلت إنّ الشاعرة ليلى أورفه لي في هذا النصّ أماتت قيس لا لتنهيه، أو تزيله من الحياة، بل لتعيد إليه رونقه وكينونته التي نسيها، أو سلبت منه إلى حين في واقع كلّ ما فيه مهين.

١-(ومات قيس) القصيدة الفائزة بالمركز الثالث في مسابقة ديوان العرب الدورة العاشرة
٢- ليلى أورفه لي: شاعرة سورية
٣- إبراهيم محمد كسار: شاعر، وناقد سوري

إبراهيم محمد كسار

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى