غزة… حين تنبعث من قلب الرماد
في البدء كان الصمتُ…
صمتُ المدن التي نامت على صدرِها القذائفُ،
وصمتُ البحرِ وهو يَحصي أسماءَ الذينَ لم يعودوا،
وصمتُ اللهِ — لا عتابًا — بل انتظارًا لمعنى جديدٍ للحياة.
ثمّ تنفّستِ الأرضُ.
ومن بينِ حُفرٍ سوداء، وبيوتٍ بلا نوافذ،
خرجَت طفلةٌ تحملُ بيدٍ حجراً،
وبالأخرى وردةً.
كانت تُوازنُ بينهما كمنْ يختبرُ ميزانَ العالم:
الدمارُ والاحتمال، الفناءُ والولادة.
هكذا بدأتِ الحياةُ في غزة مرّةً أخرى،
بخطوةٍ صغيرةٍ على ركامٍ كبير،
بضحكةٍ واحدةٍ كسرت جدارَ الخوف،
بامرأةٍ تقولُ لابنها:
“اذهب إلى المدرسة يا ولدي، ولو كانت السماءُ سقفَها الوحيد.”
يا غزة،
يا جرحًا صارَ قاموسًا للمقاومة،
ويا نجمًا لم يُطفئْهُ الحصار،
كم مرّةٍ متِّ؟
كم مرّةٍ عُدتِ من رمادكِ
كأنَّ الفناءَ كان تدريبًا على القيامة؟
كأنكِ مدينةٌ لا تعرفُ الموتَ،
بل تُعيدُ تعريفَهُ كلَّ مرةٍ على طريقتِها.
البيوتُ التي سقطت،
لم تسقطْ في الذاكرة.
تلك الحجارةُ التي حملتْها الأمهاتُ على صدورِهنّ،
تحوّلت إلى أيقوناتٍ تُضيءُ في ليلِ العالم.
الطرقاتُ المكسورةُ صارت خرائطَ للأمل،
والمقابرُ نفسها تهمسُ للعابرين:
“احيَوا… فإننا نسمعُ ضحكاتِكم من تحتِ التراب.”
الآن،
المدينةُ تتنفّسُ كما لو كانت تكتبُ سِفرًا جديدًا للبشرية.
الماءُ يعودُ إلى أنابيبه،
والنورُ إلى أسلاكِه،
والقلبُ إلى صدرِه.
الطيورُ تحطُّ على أسلاكٍ كانتْ نارًا،
وتغنّي: “كلُّ شيءٍ يمكنُ أن يبدأَ من جديد.”
حتى الغيمُ — الغيمُ الذي ظلّ شهورًا يطوفُ فوق غزةَ دون أن يبكي —
بكى أخيرًا.
وكان المطرُ كأنهُ غفرانٌ سماويٌّ للأرضِ المكلومة،
يُطهّرُ وجهَها من الرماد،
ويمنحُها يقينًا جديدًا:
أنَّ الحياةَ، وإنْ تأخّرت، لا تنسى طريقَها أبدًا.
غزة،
يا قصيدةً خرجت من فمِ الجرح،
يا درسًا في معنى البقاء،
يا نبوءةً صدّقها الشهداءُ قبل أن تُكتَب،
لقد صرتِ مرآةَ العالم،
تُعيدينَ إليهِ إنسانيتَهُ كلّما نسيها.
أنتِ لستِ مدينةً فقط،
أنتِ فكرةٌ أبدية:
أنَّ الروحَ حين تَصمد،
تغدو أقوى من التاريخ،
وأجملَ من النصر.
وفي النهاية،
حين ينظرُ العالمُ إلى صورِكِ — نصفُها رماد، نصفُها أطفالٌ يضحكون —
يُدركُ أنَّ فيكِ سرّ الوجود،
أنَّكِ لا تُقاومين الموتَ فقط،
بل تُعيدينَ اختراعَ الحياة.
