اللورد بايرون
يوم 19 أبريل عام 1824، هبّت على بلدة ميسولونجي اليونانية عاصفة هوجاء إقتلعت الشجيرات وحطمت الإغصان وهزّت الأكواخ، تساقطت الأمطار و ملأت السيول الطرقات بالوحول، فزمجر البحر غاضباً وأطلق سراح أمواجه لتضرب الشطآن في شدة ووحشية، لكن غضب الطبيعة هذا لم يمنع الناس من التجمع حول بيت صغير يقوم فوق رابية ترتفع قليلاً عن مستوى سطح البحر، صامدون أمام الرياح العاتية والأمطار التي تلفح وجوههم يرفعون رؤوسهم للسماء هاتفين بصلواتهم وينتظرون بلهفة وقلق أنباء بطلهم المحبوب، وفي غرفة صغيرة من حجرات البيت الصغير، كان هذا البطل يجود بأنفاسه الأخيرة ويعالج سكرات الموت على فراش رخيص يبعد آلآف الأميال عن وطنه وأسرته، ولم يطل الصراع به فأسلم الروح بهدوء وسكون، واطلع المجتمعون على خبر وفاته فاصفرت وجوههم وارتجفت قلوبهم وانهمرت الدموع من مآقي الرجال غزيرة وقد عرفوا بالخشونة والوحشية، وفي فجر ذلك اليوم أطلقت المدفعية اليونانية المرابضة في تلك القرية تحية وداع وتكريم للراحل الكبير، وأغلقت الحكومة دواوينها حزناً وأعلن الحداد العام في اليونان لمدة ثلاثة أيام.
وما أن وصلت أخبار وفاة البطل إلى أوروبا حتى وجم الناس في ألمانيا، ووضع الشبان شارة الحداد على قبعاتهم في فرنسا، أما في إنجلترا فقد قضى التلاميذ يوماً حزيناً في قراءة دواوين الراحل وقصائده العظيمة.
إنه جورج بايرون أعظم شعراء القرن التاسع عشر وأمير شعراء إنجلترا في ذاك الوقت، وبموته في اليونان إنطوت صفحة مليئة بالمآسي والأحزان لرجل تحدى تقاليد مجتمعه فنبذه ذاك المجتمع وقضى عليه بالنفي والتشريد.
وفي اليوم الأول من شهر يوليو عام 1824 وصلت إلى إنجلترا السفينة "فلوريدا" وهي تحمل جثمان الشاعر الطريد، ولم يكن بإستقبالها سوى أخته أوغستا وبعض من أصدقائه المقربين، وطلبت الأخت أن تودع أخاها ففتح الصندوق ولكن وجهه كان قد تغير كثيراً بفعل التحنيط فلم تعرفه، وأرادوا أن يدفنوه في كنيسة وستمنستر لكن الأساقفة رفضوا إجابة الطلب بل رفضوا أيضاً إقامة الصلاة عليه، فتقرر أن يدفن في نيوستيد دون إحتفال ديني.
ودفن بايرون في نيوستيد بجوار أمه التي قاسى منها الأمرين صغيراً وكبيرا، فجمع القبر بين قلبين تشاحنا وتفرقا في الحياة، وبعد اسابيع قليلة أراد اصدقاؤه تمجيد ذكراه، فجمعوا ألف جنيه ليصنعوا تمثالاً كبيراً له، لكن النحاتين الإنجليز إعتذروا عن نحت تمثاله وصنعه، فكُلف فنان ألماني بهذا العمل، وبالفعل أتم الفنان صنعه في ألمانيا ومن ثم أرسله إلى إنجلترا في نهاية عام 1829، لكن الرأي العام الإنجليزي كان مايزال يحقد على بايرون، فرفضت الهيئآت والمتاحف تسلم التمثال، وبقي تمثاله مهملاً في مخازن الجمارك البريطانية لعشرة أعوام، لكن بعد ذلك وضع هذا التمثال في جامعة كامبريدج ومازال حتى يومنا هذا في مكانه تحوطه أجلّ آيات الإحترام والتبجيل.
كغيره من المبدعين في العالم تعرض اللورد بايرون للكثير من المآسي وهو صغيراً فتوفى أباه عنه وهو مازال صغيراً، وولد بعاهة في رجله كان من سببها العرج الذي عيرته به أمه والكثير من رفقاء مدارسه التي تنقل بها صغيراً وكبيرا، لكن الله منحه ذاك الجمال الذكوري الرائع والحس الفني المبدع والذي أطلق عنانه في سماء الشعر والأدب فكانت بواكير إبداعاته المتواصلة تشق عنان السماء وتلهب صدور وقلوب العذارى ومن دواوينه الشعرية "ساعات الكسل"، و "رحلة تشايلد هارولد" بأجزائه الثلاثة، و"عروس أبيدوس"، وغيرها من الأعمال الأدبية الشعرية التي لاقت رواجاً كبيراً كـ "القرصان"، و "مانفرد" وغيرها، وترجمت للعديد من اللغات في ذاك الوقت.
ترك شاعرنا الكثير من الإبداعات مع أنه توفى ولم يكمل عامه السابع الثلاثين ومنها لم يسعفه الوقت للإنتهاء منها كـ"دون جوان"، لكنه بالتأكيد ترك بصمته في عالم الشعر والأدب وكغيره من المبدعين لم يعترف بإبداعاته إلآ بعد موته بفترة طويلة.
لمن يريد معرفة سيرة الشاعر الكبير كاملة عليه قراءة سيرته المشوقة (بايرون) للكاتبة أمينة السعيد.