

هافا ناجيلا
تبكي بحرقةٍ، تصرخُ بصوتٍ تكاد الأرض تنشقُّ له، و كأنَّهُ مِن استغاثاتِ يومِ الحشر، لكنْ لا حياة َ لمن تنادي. في غمةِ الحزنِ تلك والألم بدتْ جميلةً جداً بشكلٍ غريب، مدورةً، نضرَةً، تشعُّ شباباً و حيوية، طبعاً و إلا فلِمَ اختيرَتْ كبشَ فداءٍ لنذالتهم، اختطفوها و اغتصبوها بكلِّ وحشية، يريدونَ لنطفتهم الهائمةِ بلا دارٍ ولا دوار ولا أرضٍ ولا وطنٍ أن تنمو، أن تزهرَ في رحمها الخصبِ الطاهر، و لذلكَ أجبروها على طقوسِ زواجٍ غريبةٍ بالسيف(إجبارا): يا أولاد الكلب.. تصرخ بكل ما أوتيت من قوة دون أن يكون لصرختها أي صدى، البشرية أصيبت بالطرش، ولكن كيف لها أن تنطق؟ فلسان المنطق والعلم قبله يقول أن من لا يسمع لا ينطق! صمٌّ بكمٌ لا يسمعونَ، لا ينطقون،إذن: ماذا يفعلُ الميِّتُ في يدِ غَسَّاله؟! ماذا تفعل الذبيحة في يد ذباحها؟
كلُّ ليمونِ العالمِ يتمتعُ بحريته إلا أنا! يتمتع بحمامه الشمسي متباهيا بلونه الأصفر الزاهي، يعبق الأجواء برائحته التي تبعث النشوة في أنفس المرضى والأصحاء على حد السواء، عطري بعث رغبة شاذة في نفوس المغتصبين، ليشوهوا جمالي، ويبتروا لساني الذي لا ينطق إلا حقا، وإن غيبوه فعطري يعشعش في التربة وينبت مع كل بذرة ويمتزج مع كل قطرة ، فليعدموا التربة، وليذبحوا كل بذرة، ولتتبخر كل قطرة ، عطري يفوح في السماء، يرافق الغيوم، فهل تطال أياديهم السماء؟ أمنية مستحيلة تلك! سيصعقون، كل ليمونة ستتفل سمومهم في وجوههم فينقلب عليهم سحرهم.
تكابد البرتقالةُ لكتم تأوهاتها جراء الندوبَ التي حفرتْها الأظافرُ المغتصِبة على جسمها الطري، وريقاتُها الخضراءُ الزاهيةُ قُطعتْ بشكلٍ مرعب، و كأنَّ جرذاً أجرباً هائماً فتكَ بها، أو جرادا هائما فعل تحت وطأة الجوع وهوسه بتخريب كل جميل وطحن كل لذيذ.
– كلَّ فظيعٍ توقعتْهُ منهم حتى القتل، لكنْ زواجٌ بالسيفِ -إجبارا- فلا! زواج بالغصب ضد الفطرة السليمة! يحاولونَ تحسينَ نسلِهم.
في خِضَمِّ بركةِ الدماءِ هذه التي خلفتْها الإبادةُ الجماعية، القضاء على كل صاحب أرض هو هدفهم الأسمى للظفر بأرض ترفضهم منذ الأزل؛ مع الاحتفاظ بثمرات الإغتصاب، فبذورهم غير صالحة للتناسل، تلك لعنة أصابتهم عقابا لهم.
تتذكرُ بغضبٍ ممزوجٍ ببركانٍ من الألم، بعد أن أيقنت أنها لن تلبس ثوب الزفاف الأبيض، لن يدخل بها زوجها، لن تشعر بعضوه القوي داخل فرجها الضيق، ولن يختلط ماؤه اللذيذ الدافئ بمائها العطر النقي كما تمنت دوما: سحبوني على حينِ غرةٍ من شجرتي التي انتزعوا جذورَها، و تركوها تئنُّ من الجفافِ والعطشِ بعدَ أن استولَوا على مصادرِ المياه أيضا، بكيتُ دماً، خطيبي ذكرُ برتقالةٍ كان غائباً في السوقِ مع بقيةِ الذكور، يحاولونَ جمعَ الطعامِ للبراعمِ التي لا تتوانى عن قضمِ أياديها تحتَ وطأةِ الطوى.صعبٌ جداً مقايضةُ عصيرِ البرتقالِ الشحيح بالطعام، الحصارُ خانق، البعوضُ و الحشراتُ الضارةُ كادتْ تفتكُ بالشجرةِ، و خاصةً البراعم، لزخاتُ المطرِ فضل في إبعاد شيء من تلكَ الأوبئةِ القاتلة ، كما للشمسِ فضلها في استمرارِ تلكَ الكائناتِ في نسج حكاية صمودِها الطويلة. من المحزن أن تشهد الكثيرُ من البراعمِ وهي تتساقط وتموت كالذبابِ في فنجانِ قهوةٍ تركَهُ صاحبُهُ و مشى، مناعتُها أضعفُ من أن تقاوم..
تختلس الليمونة النظرات للجميع عل أحدهم يأخذ بيدها وينقذها. الجهات التي تبنت حقوق الفواكه، هي نفسها من تدعم الطاغي بمدافعها الموجهة نحو صدور العزل: نفسيتي نفسها تلفظ أنفاسها الأخيرة، إنها على شفير الهاوية، الاغتصاب مؤلم جدا، أستغرب استغرابا شديدا كيف يمكنهم الحصول على النشوة وهم يركبوننا، لا نضمر لهم غير الكراهية والبغض فكيف يستلذون فروجنا؟ أكاد أجزم أن أعضاؤهم الصغيرة والعاجزة لا تقف ويستقيم عودها إلا على السيدات الشريفات اللواتي ترفضنهم، اللواتي ينحدرن من سلالات نقية، فالإناث عندهم لقيطات ينحدرن من كل سلالة مجهولة النسب، لا يتوانين عن فتح ما بين أفخاذهن للقاصي والداني. الإجرام يثير شهوتهم الحيوانية، إنها طريقتهم المثالية لتحقيق غايتهم المكيافللية، دون أن ينظروا إلى الوسيلة التي يتأبطون ذراعها، عفوا بل ذيلها الذي تلتصق به الأوساخ والخراء على مدى قرون طويلة. آي آي بطني بطني ...توقف صوت الليمونة بعد أن غرس المغتصب سلاحه الضخم كدينصور في بؤرة من جروحها العميقة، الشعيرات الدموية طحنت نزفت اختلط جمال بشرتها الأصفرالزاهي بدمها، فاختفى كل لون معروف لتبقى بلا لون، أو الأحرىلتتحول إلى ليمونة بلا لون، بينما غرق المغتصب في هاوية شديدة السواد مظلمة كالليل، لا ليس كالليل، فالليل نجومه وقمره، بل مظلمة كسواد قلب المختطف، غابت عن الوعي وكأنها فضلت الموت ولو مؤقتا على النظر لوجهه المضطرب المخضب بالدماء التي رسمت وديانا وأنهارا عليه، امتدت عبر الأزمان، منذ غضب الرب عليهم...إذن هي اللعنة.
غصنُ الزيتونِ العتيقُ الذي رافقَ هذه الأرضَ لملايينِ السنينِ شاهدٌ مهمٌّ على الأنبياءِ و الرسلِ في هذهِ الأرضِ الطيبة، فهل بمثل هذا يجازى شاهدٌ نادرٌ في تاريخِ البشريةِ؟ أغلبُ حباتِ الزيتونِ المتعلقةِ بالغصنِ الأب كانت مشغولة بالتسبيح: لا إله إلا أنتَ سبحانكَ إني كنتُ من الظالمين.. دعاءَ سيدِنا يونسَ و هوَ في بطنِ الحوت، حوتُ يونسَ أرحمَ، أما حوتهمْ فَصلدٌ، حوتٌ آلي ضخمٌ يلتهمُ الداسةَ و المدسوسة، عصارتُهُ البترولية تطحنُ الصغيرَ قبلَ الكبير، الميَّتَ قبلَ الحي، النباتَ قبلَ الحيوان. رغم الأثلامُ الغائرةُ في جسدها، تقاومُ السنبلةَ، مؤديةً رقصةَ الحرية، رقصةَ أصحابِ الأرض، التي يحاولونَ عبثاً إقناع العالم بأنها ترفضُهم، تلفظُهم، رهطاً و باطلاً يدعون. متى رفضتْ الأمُّ أن يلثمَ الوليدَ ثديَها و يفترشَ حضنَها!؟
السنبلةُ لم تيأسْ من طلبِ النجدة من أناناس دولة جنوب إفريقيا، رفع مذكرته لمحكمة العدل الدولية، فأحفاد نيلسون مانديلا لا يمكنهم التخلي عن إرث جدهم بعد أن دفع ربع قرن من حياته في السجن مقابل محاربته للعنصرية، الغريبُ أنْ لا أحدَ يستجيب! الجميعُ اكتفى بالتفرجِ(تخطي راسي وتفوت).
كانتْ تجاهدُ لتبقى شامخة بجسد مخروم: (بربي ما نحط سلاحي نقعدلهم كي مسمار جحا)، شوكة في حلقهم.، بينما القس منهمك في قراءة عهود الزواج. كيف لها أن تقبل بزوج لم تنظره؟ يضعون عصابة على عينيها مذ اختطفوها من حقلها بعد أن أضرموا فيه نارا حامية-سوف تشوي جلودهم سواء طال الزمن أو قصر- سنبلة رشيقة وغنية وجميلة مثلها لن يعوزها الذكاء لتتعرف على خادمهم البشع ذاك!صوته القبيح لن يخفى عليها، رغم هرمه لا زال يلهث وراء طمعه بأن يصبح ذا قيمة يوما ما، هباء ذهب مع الريح حلمه، فالغراب لا مكان له سوى الخلاء الخالي هناك مع الجيف.لن يشعر بالوقت حتى يجد السنبلة تعشقه وتنام في حضنه، هكذا أوهمه المعتدي:
– هل تقبلين بجوي زوجا لك في السراء والضراء؟
كالرصاصة قاطعته:
– لا وألف لا..
تعافر لتفك الأغلال وتنزع العصابة لكن..
يزوجونها بغرابهم كونه ضعيف قليل الحيلة لكن الأمر سيختلف إن هو اقترن بالسنبلة، نسل جديد من سلالة نقية قوية لا ينقصها الذكاء، يكرسونها لخدمتهم وخدمة أهدافهم البغيضة. ولأنها ذكية تفطنت إلى أن القوة الجسدية ليست السبيل الوحيد، فالذكاء سلاح أقوى، استخدمت عودها في فك القيود الملعونة، وبحركة غير محسوبة وجهت شوكها نحو منطقة التزاوج لدى الغراب، فألحقت بها خرابا لا يمكن تداركه: بئسا لكم ولغرابكم البشع، اذهبوا به ودعوه يمارس فحولته عليكم علكم تشفون من عجزكم أما أنا فنجمة في السماء، أخبروني متى أصبحت سهامكم المسمومة تصطاد النجوم؟ عاجلا أم آجلا سترتد عليكم فتخترق أعضاءكم التناسلية، وقتئذ سينقرض نسلكم ، وستتكدس بقايا أعضائكم في المشارح، ليحاول العلماء معرفة سبب عجزكم وانقراضكم، ولن يعثروا على إجابات. الموسيقى تملأ الشوارع فرحا بنصر مزعوم، إنها أغنية هافا ناجيلا(دعونا نحتفل) التي كتبت كلماتها سنة 1917 احتفالا بوعد بلفور المشؤوم.
شطُّ الزيتونِ هو الآخر يرفض الاستسلام فإما الحرية أو الموت كما قال شغيي فارا. يخاطب بناته التي سلخ جلدها ليترك زيتها يتقاطر هباء في الهواء: اصمدي يا من شهدتِ ميلادَ الأنبياء، قاومي كما قاوم كلُّ أحرارِ العالم، اصبري كما صبرَ نيلسون مانديلا، ابتسمي كما ابتسم العربي بن مهيدي الجزائري ابتسامة النصر، الذي سلخت فروة رأسه وهو حي يرزق.. اصبري يا زيتونة يا أم التاريخ...عقدت الشجرة اجتماعا طارئا، حضرته كل الزيتونات الكبيرة والصغيرة، السوداء والخضراء.. ليبحثوا عن شجاع ما يؤيد قضيتهن، فكان قرارهن أن يتصلن بمومياوات مصر، فعدا خبرتها الطويلة مع الحروب فهي الأقرب إليهن، لكن هيهات فالعين بصيرة واليد قصيرة، بعد أن أغلق العدو كل المعابر واكتشف كل الأنفاق.
بحركةٍ غيرِ متوقعةٍ تهاجمُ البرتقالةُ المعتدي وقد غمرها الحماس على أنغام السيدة فيروز: الغضب الساطع آت، سأمر على الأحزان، من كل طريق آت، بجياد الرهبة آت.. رصاصاتُهُ العشوائيةُ لم تصبْ غيرَ الهواء، هذا هو القناص نفسه الذي كان يفتخر بقتل ما يزيد عن اثنا عشر ألف برعم من بستان غزة. هنا تغتنمُ الليمونةُ الفرصةَ فتعصرُ ماءَها الحامضَ القويَّ في عينيهِ ليعمى على بصرهِ كما عميَ على بصيرته، يتخبطُ في وحلِ جبروته كخنزير فقئت عينيه، تتقاذفُ الزيتوناتُ الواحدة تلو الأخرى فتخترقَ طبلاتِ أذنِهِ، فتثقبها كما ثقب بكارة ثلاثة آلاف من البرتقالات الأبكار.
تكابرُ السنبلةُ وتقذف بشوكها في حلقهِ فتخنقَهُ كما خنقَ غازُهُ(السيرين) المميتُ حقلاً بكامله، وهو الغاز نفسه الذي استخدمه الألمان ضده في الحرب العالمية الثانية، التوى غصنُ الزيتونُ على جسدهِ السمينِ المترهلِ كأفعى، فأجهزَ على ما تبقى فيه من نفس، يتخبطُ، يصارعُ، يحاولُ النجاةَ لكنْ من لا يَرحمُ لا يُرحم، فعزرائيل لا يعرف الرجعة وهو على حصانه الأبيض الناصع.
يتناثرُ لحمُهُ في الخلاء، أنشد الأحرار أغنية العدو (هافا ناجيلا) بلحنهم الخاص، وقتئذ تنفست أشجار الفواكه و أصحابُ الأرضِ والأرض نفسها الصعداء، لتلفظُ الليمونة والبرتقالة والسنبلة والزيتونة أنفاسَهن الأخيرةَ رافعات راية النصر.
تدفنُ الحمامةُ بذورَ أصحابِ الأرضِ بعدَ أن استشهدوا بشرفٍ، قدمت البرعمُ بنت نوفلُ التي لم تلبثْ في شجرةِ الحياةِ سوى أيامٍ سبعة قبل أن تستهدفها مدافع المغتصب لتصطحبهن إلى الفردوس.
رفرفتُ الحمامةُ رافعة غصن الزيتون بعدَ أن حرقتْ الطريقَ التي أتى منها المعتدي؛ حتى لا تسول له نفسه العودةِ ثانيةً.
استطاعوا أن يطيروا بينَ الزواحف، استطاعوا أن يطيروا بين الزواحف، ستنبتُ البذورُ، ستزهرُ البراعم، سيعود أصحاب الأرض..
كانت هذه شهادة حمامة أمام محكمة العدل الدولية.