

نُصرة
ترقص دموع الفرحة بعيني التي بالكاد ترى طيف احتفالات الجيش الفلسطيني الحر بالنصر على العدو، اليوم فقط أقف شامخة, مكتملة البنيان رغم رحيل نصف جسدي، إذ كان فداءً لسير بلادنا نحو الحرية والنور.
أمل نصر الدين أو "نصرة الدين أمل"، سأحتفل ببلوغي الخمسين بعد أسبوعين من الآن، اختلطت في عروقي دماء المقاومة الفلسطينية السارية بجسد أبي بدماء الانتصار المصرية السارية بجسد أمي لتسفر عن مجاهدة لن تكل حتى تعود الأرض لأصحابها مهما كان الثمن.
أحببت ولازلت أحب المهندس "أمل"، ذلك الأربعيني الوسيم والمجاهد الفلسطيني العظيم, يكبرني بثلاثين عامًا على الأقل، ولا أدري أكان الذي بيننا حبا أم تعلقا بمشاعر الأبوة والبنوة التي حُرم كلانا منها بالإضافة إلى أن أمل كان بالفعل اسم أبي الذي حرمت منه وأنا لم أُتِم السادسة من عمري.
كان أمل عازفًا عن الزواج إلى أن التقينا بأحد الأنفاق المخصصة لاجتماعات القيادة العليا للمقاومة، ورغم حداثة سني وقت أن شغلت منصبا كبيرا بها، إلا أنني كنت أتمتع بحكمة شهد لها الجميع وعلى رأسهم هو.
شغل منصب رئيس القسم الخاص بالاستخبارات التكنولوجية وكذلك الذراع الأيمن للقائد العام للمقاومة، شهد هذا القسم تطورا عظيما على يديه، فقد تمكن من تهريب أحدث جهاز رصد على مستوى العالم، والذي يستطيع عمل مسح للمنطقة الموجَّه نحوها بدقة تمكنه من حصر كل جندي وسلاح ونبته تتنفس، بل كل نملة تطأ تلك المنطقة، وكان أمل الوحيد الذي يستطيع برمجته وقراءة البيانات المشفرة الظاهرة على شاشته إثر إرسال ومضة خافته إلى الموقع المستهدف.
وبفضل كليهما؛ أمل والجهاز، استطاعت المقاومة النجاح في العديد من العمليات التي قامت بها وحصد غنائم ثمينة، خاصة "الأسلحة المتطورة" الموجودة وقت التنفيذ.
أصرعلى أن أتعلم طريقة تشغيل الجهاز و فهم بياناته المشفرة ثم كتابة تقرير مفصل عما تم رصده ،ورغم أن مهمتي في المقاومة كانت بعيدة كل البعد التكنولوجيا وذكائها الغبي في بعض الأحيان من وجهة نظري، إلا أنني وافقت على ذلك.
وذات يوم اصطحبني إلى مقر عمله الغير معلن حتى للقيادات العليا، لأنه كان متغيرا بحسب المنطقة المراد تنفيذ العملية بها، اختبرني في كل ما علمني إياه، وكانت النتيجة هي ذهوله من فرط تمكني من تشغيل الجهاز والتعامل معه وكأنني "أمل"، لمعت عيناه وأطال النظر إلي في إعجاب وحزن، أغلقنا الجهاز ثم ذهبنا إلى مستقرنا الذي اعتدنا أن نلتقي فيه بين الحين والآخر.
تغيرت ملامح وجهه قبل أن يقول لي:
– أعلم أنك في حيرة من أمرك، وأنني لست أمل الذي عهدتي انطلاقه وتفاؤله، ولكني من اليوم أريدك أن تكملي ما بدأته أنا ومن قبلي المجاهد "أ".
لم أنطق بكلمة، وتركته يفيض بمكنون قلبه....
– الأمر جدا هام يا نصرة، هام لدرجة الهم.
– من نصرة تلك! ألم تخبرني كثيرا أنهم قد أخطأوا في تصنيفي كأنثى, وأن اسمي الحقيقي هو نصر الدين أمل علي، وأنك حين رأيتني أول مرة اختلط عليك أمري من جديتي في الحديث وطريقة لبسي"
فتبسم على استحياء، فقد كنت أوبخه على ما قاله في كل مرة التقينا فيها كحبيبين لا مجاهديْن.
– لعلي تعمدت أن أقول ذلك كي لا أسمح لنفسي بالضعف أمام جمال قلبك وعقلك قبل أنوثتك، تعلمين أنك العكس تماما مما قلته وأني لم أتمكن من السيطرة على زمام قلبي، ولكن من الآن ستنقلب الآية حقا، وستصبحين "أمل"، لا نصرة ولا حتى نصر.
اعتدل في جلسته وارتسمت الجدية على ملامحه وقال:
– تعلمين أنني شديد الملاحظة لدرجة تجعلني أستبق الأحداث قبل وقوعها بدقة كبيرة، ويبدو أن الله خلقني كذلك لحكمة لم أفهما إلا منذ أشهر قليلة.
منذ أن توليت مهمه تشغيل جهاز الرصد، وأنا أقف عند مسئولية عمل تقرير دقيق لما أسفرعنه الجهاز من معلومات، وكان المجاهد" أ" هو الذي يتولى مهمة مطابقة عددالأسلحة الواردة في التقرير بالمتحَصَّل عليها من المجاهدين، في بداية الأمر لاحظ أن هناك فارق كبير بين ما هو مكتوب وما هو وارد إلينا، وكأي مجاهد مخلص أخبر رئيسه بذلك، وبتوالي العمليات الناجحة، تقلص الفارق إلى الحد الذي يجعله يطرد فكرة وجود خائن بيننا، لكنه لم يفعل ذلك، بل كان يراقب في صمت من تولى مهمة الجهاد في كل عملية و كذلك الأسلحة الواردة ومقدار النقص فيها.
استمر في صمته ومراقبته لسنوات، أعد تقريرا سريَّا بما لاحظه، وإلى أن تأكد من وجود خيانة عظيمة في الصفوف الرئيسية للمقاومة ، أخبرني بما قصصته عليك الآن قبل أن يموت غدرا، وطلب مني ما أطلبه منك الآن، أن تكملي مسيرتنا في تطهير المقاومة من هذا الخائن اللعين"
ـ لحظة من فضلك, لقد ذكرت أن الفارق قد تقلص، ألا يعني ذلك أن الخائن فُضح أمره عند القادة وأنهم تخلصوا منه بالفعل؟"
ـ لا يا نصرة، لأنني لاحظت شيئاً آخر لم ينتبه له المجاهد "أ"، وهو اختلاف الجندي الإسرائيلي الذي يتم رصده، عن الجندي الذي يتم أَسْره أو سفك دمه، وكان لابد أن يسبق التنفيذ مجئ سرية إسرائيلية، لتستبدل صاحب الرتبة الأعلى في جيشهم، بجندي آخر لا قيمة له، أضيفي إلى ذلك،أننا في إحدى العمليات التي نفذناها،أسرنا جنديا إسرائيليا همَّ بالفرار قبل دقائق معدودة من التنفيذ,وكان بحوزته ذلك الفارق الضئيل بين ما رصده الجهاز وما تم الحصول عليه من أسلحة العدو، ألا يعني لك كل ذلك شيئاً واضحا وضوح الشمس!!"
– خيانة فلسطينية- إسرائيلية, وهذه شعرت بها سابقا في العديد من المواقف، ولكن كنت أحدث نفسي ألا مجال لذلك وهذا هو حال وطننا، أما أن يكون هناك خيانة إسرائيلية- إسرائيلية فهذا بالنسبة لي درب من الخيال.
ـ أتعجبين من خيانة قوم لبعضهم وقد استحلوا أرضنا وديارانا! أعذرك قليلا لأنك لم تشهدي ما حدث من تجويع وتهجير لشعبنا في حرب السابع من أكتوبر2023، لم تعهدي الخيام التي لم تصمد كثيرا في مواجهة برد الشتاء القارص ومطره الكثيف, فكانت أسرَّتنا من الطين وغطاء أجسادنا الماء، ماتت أطفالنا متجمدة, وشيوخنا تصرخ "أغيثونا يا مسلمين... أغيثونا يا عرب" ولكن يبدوا أننا كنا نصرخ وسط جَمع من البُكم ,لم تشهدي عويل الأم التي ذهبت مسرعة لإحضار رغيف خبز لأطفالها الجوعى, فعادت لتجدهم أشلاءً مبعثرة، فصرخت بأعلى صوتها "ماتوا جوعانين ... ماتوا جوعانين"، وفي نالوقت ذاته كانت تقام الولائم على الموائد....
أكملت دموعه سرد باقي الجرائم نيابة عنه، وما أن استطاع أن يتمالك نفسه حتى أوصاني قائلاً:
- سأخبرك بمشتبهين لا ثالث لهما، راقبي بحذر خطواتهما، وما أن تصلي للخائن فيهما، أخبري به عرفات ... "ياسين عرفات".
"كان علينا أن نجاهد بعضنا قبل أن نجاهد عدونا"
كانت آخر جملة قالها قبل استهداف منزله بقذيفة تكفي لإبادة بلدة بأكملها، وكالعادة ظهرت الحادثة كانتهاك للعدو للغاشم للمدنين المسالمين.
لم تنطق عيني بدمعة واحدة منذ أن تلقيت خبر وفاته، وانقلبت الآية بالفعل, وأصبحت "أمل" المسئول الأوحد عن تشغيل الجهاز في قسم الاستخبارات التكنولوجية.
راقبت وتابعت المشتبه فيهما في خفاء صامت_ كما كنت أظن _ ولكن ما أن تيقنت ممن خان الله ووطنه ونفسه، حتى تلقيت طلبا للتحقيق معي بشأن عدم دقة التقارير التي أُعدها، إذ يقولون أني أبالغ في كم ونوع الأسلحة الواردة فيها.
ومنذ ذلك الحين وأنا أتوقع حدوث عملية تصفية لجسدي في أي وقت، إلا أن الخائن كان أشد قسوة مما كنت أظن، فقد تم اختطافي من قبل عصابته الملثمة واصطحابي إلى مكان ما, وفي ختام الاستجواب المعروفة مسبقا نهايته، قال الخائن أنه لن يرحمني بإنهاء حياتي، بل سينزل بي أشد ألوان العذاب، عذاب فرعون لسحرته، كونه طبيبا ويعلم أن تلك الطريقة من أقسى أنواع التعذيب لجسد الإنسان.
قطعوا يدي ورجلي من خلاف دونما وسيلة تخدير تشفع لهم عند الله، تعالت أصوات ضحكاتهم وأنا أبكي دما، تركني أنزف إلى الحد الذي يبقي قطرات من الدم تعينني على أن أبقى على قيد الحياة.
وبعد أن التقطت أنفاسي قليلا، زينوا جريمتهم بتسليط ضوء شديد القوة على عينيي، حتى تأكدوا من عدم مقدرتي على تبين الأبيض من الأسود.
ألقوا بجثتي النصف حيَّة على جانب الطريق المؤدي إلى بيتي, في الوقت الذي يعلمون جيدا أن جاري سيمر منه ليؤدي صلاة الفجر بمسجد ضيعتي.
فعلوا ذلك كله ظنا منهم أنهم قد تخلصوا مني وأنهم ماكثون في خيانتهم أبدا.
لم يعلموا أني قد استبقت خطاهم بقيد أنملة، وتركت وصيتي إلى من وثقت فيه وشددت عليه أن يذهب بها إلى عرفات قُبيل تصفيتي النصف جسدية بساعات.
مرت الأيام سريعا، ولربما كانت أشهر أوسنوات, وأنا أسترق أخبار القبض عليهم ممن أوكلته المقاومة بالقيام على شئوني، ولكن دون أمل.
إلى أن جاء اليوم الموعود، السادس من أكتوبرعام 2050، وكأن هذا اليوم من ذلك الشهر هو موعد النصر المبين على مر العصور، وقام الجيش الحر الفلسطيني بقيادة ياسين عرفات بشن هجوم عنيف لم يشهده التاريخ، الآن فقط علمت لم اختصه أمل دوناً عن باقي عناصر المقاومة الأعلى منه في السلطة والقيادة، يبدوا أنه هو الذي قام بتطهيرها في الخفاء وتشكيل جيشنا الحر.
فلسطين يداً بيد حليفتها أم الدنيا, أبادوا إسرائيل عن بكرة أبيها، آلاف الجثث الممزقة تغطي شوارع المدن الإسرائيلية، والتي لم تصمد طويلا في مواجهة أسود الجيش الحر وخير جنود الأرض، أما عمن استطاع الفرار من المدنيين، فقد وقعوا أسرى في يد المجاهدين، و تم ترحيلهم إلى من زعمت أنها دوما إلى جوارهم_ إذ لا وجود لدولتهم التي وعدتهم وعد الباطل بأنها ستمتد من النيل إلى الفرات_ فما كان منها إلا أن شردت بهم وأذاقتهم أشد ألوان الذل والهوان.