

مستقبل حياتنا الثقافية.. واقع وتحديات
لا يختلف إثنان على أن المشهد الثقافي في محيطنا القريب اختلف جدا في السنوات الأخيرة، عما عهدناه بين سبعينات وتسعينات القرن الماضي، بل يمكن الزعم حتى أواخر العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. إننا نشهد في السنوات الأخيرة، تراجعا في الإقبال على القراءة والمطالعة، وجاء ذلك تزامنا مع تراجع مكانة الصحافة المكتوبة. ذلك المشهد جاء بفعل اقتحام التطور الالكتروني ووسائله المختلفة الإعلامية منها والتواصلية، بحيث غيرت كثيرا من عاداتنا الثقافية التي درجنا ونشأنا عليها.
لقد غابت عن مشهدنا الثقافيّ، الكثير من الصور والمظاهر التي رافقتنا لسنوات. لقد اختفى مشهد طوابير السيارات أيام الجمعة أمام محطات الوقود، حيث كان يصدر عدد من الصحف العربية يوم الجمعة، وتوزع مجانا في محطات الوقود. لم يعد أحد اليوم يقرأ، أو حتى يسأل عن الجريدة، فأبناء الأجيال الجديدة، وتبعهم في ذلك المتقدمون سنا، باتوا يعتمدون الهاتف الخلوي وما يحويه من مواقع إخبارية وصفحات فيسبوكية أو انستغرامية، مصدرا للأخبار سواء المحلية أو الخارجية، مع ما تحمله من صور تضفي إثارة للمادة المكتوبة، بل باتت الصورة تشكل أساس الخبر، وتتفوق على مضمونه وتغني حتى عن المادة المكتوبة، وتحوّل كل حامل هاتف خلوي الى صحفي، يصور وينزل الصور أو الأفلام القصيرة على صفحته، فيتابعها مئات وآلاف المتابعين.
كذلك لم تعد الكتب والمطالعة فيها تشد أبناء الأجيال الشابة، بل باتوا يستهترون بالقراءة ويفخرون بأنهم لا يقرأون الكتب. فتراجعت القراءة وبالتالي المعرفة واتقان اللغة، بل تشوهت اللغة بتأثير الانترنت وتبادل الرسائل النصية، واستخدام أحرف لغات أجنبية وأحيانا رموز وإشارات بدل الأحرف، مما أطلق عليه "لغة جبرش"، لأنها مشوشة ولم تعد مفهومة.
إن تأثير الانترنت انعكس على طرائق التعليم في المدارس. نذكر أنه كان يخصص ضمن حصص اللغة العربية، حصة أسبوعية تدعى "المحفوظات" وأحيانا يقرن معها المطالعة أو الانشاء. وكانت تهدف حصة المحفوظات إلى تعويد الطالب على حفظ قصائد الشعر خاصة والقائها أمام زملائه في الصف، ولم تقتصر الفائدة على حفظ المادة بل إلى تدريب على الالقاء وتدعيم شخصية الطالب بالظهور أمام جمهور وغيرها.
كذلك انتشرت الندوات الثقافية في قرانا وبلداتنا، قبل أن ينتشر التلفزيون في البيوت ويغزو الانترنت حياتنا ويقلبها. حيث كان الناس يتوافدون إلى النوادي للاستماع إلى محاضرة أو التقاء شاعر أو كاتب، بهدف الاستفادة و/أو تبادل المعلومات والأفكار.
واقعنا اليوم.. ينذر بما هو آت
تقول الباحثة الدكتورة مي العبد الله سنو في كتابها "الاتصال في عصر العولمة" بأن "صحيفة "الواشنطن بوست" تعتبر إحدى الصحف التي أحدثت ثورة في طريقة مطالعتنا صحيفتنا اليومية المفضلة" (ص 75) وذلك حين بدأت بإصدار صحيفة الكترونية الى جانب المطبوعة. ولم يعد الأمر مقتصرا على الولايات المتحدة فقد غزت الصحف الالكترونية عالمنا من أكثره تقدما حتى أكثره تخلفا. وكانت الصحف المطبوعة في مجتمعنا تحتل الحيز الإعلامي الأكبر، وكانت تعتبرا مصدرا للأخبار وخاصة المحلية، وشكلت المنبر الوحيد تقريبا لطرح قضايا المواطنين ومعالجة مواضيع تهم السكان، في مختلف مجالات الحياة، لكن تلك الصحف تراجعت في عصر التكنولوجيا، وبعدما كانت تصدر بعشرات الصفحات، وصل بها الأمر لأن تصدر بـ 12 صفحة فقط، وأحيانا بعدد صفحات لا يتجاوز عدد أصابع اليدين، مما يدل على تقهقر الصحف المطبوعة وتراجع دورها وتأثيرها في المجتمع، بل يكاد دورها أن يكون معدوما.
هذا ناهيك عن تراجع في القراءة عامة، ولم تعد تجد سوى كبار السن يصرون على الامساك بالكتاب عند المطالعة، ويعتبرون تحسس الورق متعة كبيرة إلى جانب القراءة البصرية. وقد ساهم في ذلك الغاء حصص المحفوظات من منهاج اللغة العربية في مدارسنا، بحيث لم يعد الطالب يأبه بحفظ الشعر القديم أو النفيس، طالما أن الانترنت يحفظ له تلك المواد، وبإمكان الطالب الوصول اليها خلال ثوان وبكبسة زر في الحاسوب. وهذا ما أصابه في حصص الرياضيات، وحاجته لإجراء عمليات حسابية بسيطة.
ووصلنا الى ظاهرة أخرى متعلقة بما عرضناه وهي أمسيات احتفالية ضعيفة المضمون، حيث تراجعت الندوات الجدية والغنية بمضامينها، وحلّت محلّها أمسيات "علاقات عامة"، لا تهدف إلا إلى رفع شأن المحتفى به سواء كان شاعرا أو كاتبا، بغض النظر عن مستوى نتاجه الأدبي، وهكذا اكتست الكثير من الأمسيات صفة "التهريج"، وتحوّلت إلى أمسيات مديح واطراء وكأنك تستمع إلى جوقة من الحدائين في الأعراس، حيت يسبغون على الممدوح صفات وخصال بعيدة عن شخصيته الواقعية. وبدل أن تكون الأمسيات الثقافية أمسيات تثقيفية، تحولت إلى أمسيات "تسخيفية" في كثير من الأحيان. أضف الى ذلك أن من يحضر تلك الأمسيات بغالبيتهم الكبيرة هم من كبار السن، بينما يغيب عنها الشباب بشكل ملحوظ ومقلق، فهل ستختفي هذه الأمسيات – على علاتها – من فضائنا الثقافي أيضا؟!
التحديات المستقبلية للمشهد الثقافي وكيفية مواجهتها
بما أنه لا يمكننا محاربة التقدم التكنولوجي الذي حصل، مثلما لا يمكننا العودة إلى الوراء، لا بد من اجتراح حلول تناسب العصر الذي نعيشه والظروف الني تحيط بنا، ولا أجد حلا أنسب من تطبيق مقولة شاعرنا أبو النواس "وداوني بالتي كانت هي الدّاءُ". بما أن التكنولوجيا دخلت جميع مرافق حياتنا، وبما أنه يمكن لكل انسان استخدامها على الوجه الذي يراه مناسبا، لا يبقى أمامنا إلا التعامل مع هذا العالم بوسائله وتقنياته المختلفة لتحقيق الأهداف المرجوّة.
بخصوص الأمسيات الثقافية، يمكن عقد أمسيات بواسطة "الزوم"، خاصة بعدما انتشرت في أوساط طلابنا في المدارس، حين فرض عليهم التعلم عن بعد نتيجة العزلة القسرية في البيوت لدى انتشار وباء "كورونا"، سواء كان صحيحا أو مفتعلا فهذا ليس موضوعنا في هذه العجالة، أسوة بطلاب الجامعات، والموظفين في المكاتب، الذين تحولوا للعمل من البيوت. يمكن استغلال هذه الآلية في الندوات الثقافية الجادة، لجذب جمهور الشباب اليها، وقد لجأت عدة مؤسسات الى هذا الحل، لكن ما زالت المشاركة في هذا النوع من اللقاءات محصورا في عدد محدود من المتابعين، ويتوجب معرفة كيفية توسيع دائرة المشاركين إلى العشرات بل المئات.
وبالنسبة للقراءة يمكن استخدام الحاسوب، بأنواعه وأشكاله وقد اعتاد أبناء الجيل الشاب والصغير على ذلك، بعكس الكبار الذين ينفرون من القراءة الحاسوبية ويملّون منها بسرعة. ومن هنا علينا غرس قيمة القراءة في نفوس الصغار الذين سيكبرون والحاسوب رفيقهم، وقد باشرت عدة دور نشر في الغرب أساسا، وتبعهم أهل الشرق في ذلك، بإصدار كتب الكترونية على مواقعها بهدف القراءة وحتى المباع.
أما التعليم في المدارس، فيقف اليوم على "كف عفريت" الذكاء الاصطناعي. ويقال إن المدارس سينتهي دورها في عصر الذكاء الاصطناعي، وسيفقد المعلم وظيفته حيث سيحل ذلك الذكاء مكانه ويقوم بمهمته. بل أن خطر الذكاء الاصطناعي يمتد إلى الابداع، حيث يمكنه تلبية طلبك بكتابة قصة أو قصيدة وربما رواية، مما يضعنا أمام تحد أكبر، إذا لم نحسن التعامل مع التطور التكنولوجي الرهيب.