الثلاثاء ١٠ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم زينب السيد السعيد

لهيب حنان

في زقاقٍ ضيّقٍ من أزقة مخيم جباليا في غزة، تفوح منه رائحة الخبز المحترق والذكريات، وُلدت حنان. لم تكن كغيرها من بنات الحيّ المحاصر؛ تحمل في عينيها زرقة البحر المحرَّم، وفي صوتها رعشةٌ تُشبه نحيب الوطن المكبوت. عاشت طفولتها بين الحجارة المهدّمة وصدى الصلوات، تتقن التسلل بين الركام كأنها ظلّ نبتَ من وجع الأرض، تكتب أسماء الشهداء على جدران المدرسة بأصابعٍ صغيرةٍ ترتجف، لكنها لا تخطئ.

كان والدها معلّم تاريخ، أمضى سنواته وهو يُدرّس ما سُمي بـ"التاريخ المحظور" بالنسبة لقوات الاحتلال. علّمها أن تقرأ ما بين السطور...أن تحفظ وجوه القادة الشهداء، وتفهم الخرائط الممنوعة، وتحب الأرض كما يحب العاشق ثرى حبيبته. أما أمها، فهي تحيك الكوفية في الليل، وتخبئ الرسائل في ثنيات ثوبها المطرّز نهارًا.

مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، لم تعد الطفولة إلا ذكرى في الذاكرة المشروخة. ذات مساءٍ، رأت حنان والدها يُسحب من بيته تحت صراخ الجنود وصمت الجدران. تكسرت عيناها الطفلتان على مشهدٍ لم يُمحَ، ومنذ ذلك اليوم، لم تعد الطفلة كما كانت. شيءٌ ما فيها انكسر...أو لعلّه اشتعل.

مرت سنوات على اعتقال والدها، كل يوم فيها كان صدى لغيابه وجرسًا في صدرها لا يصمت. في المدرسة، لم تكن تكتب مثل البقية، بل تنقش على دفاترها كلمات مثل: "الصمت خيانة" و"الكرامة لا تُساوَم". كانت تسهر ليلًا على شمعة، تكتب منشورات باسم فتيات الخلية السرية في المدرسة، وتوزعها مع صديقاتها في الفجر قبل أن تفتح الصفوف أبوابها.

كانت تعرف أن خطوةً واحدةً خاطئة قد تعني الموت أو الاعتقال، لكن الخوف لم يكن له مكان في قلبٍ سكنته فلسطين. ومع تصاعد الاجتياح، وتكثّف الغارات على القطاع، كبرت حنان على صوت الطائرات لا الموسيقى، وتعلّمت أن تقرأ أعمار الصواريخ من شقوق الجدران.

انكشف أمر الخلية في إحدى الليالي. طاردها الجنود عبر الأزقة. اختبأت خلف حائطٍ متشققٍ كذاك الذي في بيتها. تنفّست بصعوبة، ضمّت الحقيبة إلى صدرها. خبأت في جيبها ملفٌ يحتوي على أسماء مَن تبقى من قادة الانتفاضة في الشمال...ذلك الملف التي كان يجب عليها توصيله الي أحدهم ولو سقط بيد العدو، لسقطت أعمدة كاملة من المقاومة.
حاصروها...رفعوا الأسلحة...صرخوا فيها أن تستسلم.

لكنها لم تفعل.

في اللحظة الأخيرة، مزّقت الأوراق بأسنانها وألقت بها في فم النار التي أشعلها المقاتلون على مفترق الطريق. ثم تقدّمت نحوهم عارية اليدين مرفوعة الرأس.

 لن تحصلوا على شيء.

قالت وصوتها كالسيف.

اقتادوها إلى السجن. حاولوا كسرها. كبلوها، عذّبوها، أطفأوا الأنوار، ثم أعادوها لتشهد الظلام مرارًا. في الليلة الأولى، جلست في زاوية الزنزانة تبكي. خافت، لا تنكر ذلك. في عتمة الحديد، تسرّبت إليها أسئلة لم تعهدها: هل يستحق الأمر؟ هل ستراها أمها مجددًا؟ هل سيعرف الناس ما فعلته؟ أم ستموت مجهولة كغيرها؟

وفي منتصف الليل، وجدت على الحائط شخبطة سابقة لمعتقل سابق:

"لا تنكسر...إنك لست وحدك."

في تلك اللحظة، تنفست بعمق. مسحت دموعها بالكوفية التي ما زالت تحتفظ بها وابتسمت. لم تعد تبكي بعد ذلك.
استعادت كلمات والدها في أيام التحقيق:

"السجن امتحان يا حنان. لا يخاف من الامتحان إلا من لم يذاكر حبه لوطنه جيدًا."

كانت تكتب على الجدران بأظافرها، تنقش أبيات محمود درويش، وترسم خريطة فلسطين من ذاكرتها. تروي كل ليلة لنفسها قصة شهيد، تحفظ اسمه وسنه ويوم رحيله كأنها تقيم في الزنزانة متحفًا للأرواح الخالدة.

أُفرج عنها في صفقة تبادل بعد خمس سنوات. خرجت هزيلة الجسد لكن عيناها كانتا تتوهجان. استقبلها المخيم كما يُستقبل القمر بعد عتمة طويلة. لم تعد فقط فتاةً من جباليا؛ صارت نارًا تمشي بين الناس، توقظ الغافلين وتوقّع رسائل الحنين.

عادت إلى بيتها فوجدته أطلالًا. جلست فوق الحجارة وبكت لأول مرة منذ الاعتقال. لم تبكِ لأنها ضعيفة، بل لأنها ظلت قوية أكثر مما ينبغي. ثم نهضت ومسحت دموعها بالكوفية القديمة وقالت:

 البيوت تُهدَم، لكن الوطن لا يُهدَم. الأسرى يُقيدون، لكن الحرية لا تُقيد. قد يكسرون الأبواب لكنهم لا يستطيعون اقتلاع الجذور.

ثم التفتت إلى الجموع التي تجمّعت حولها، وقالت بصوتٍ يخترق جدار الزمن:

 مَن ظنّ أن السجن يطفئنا لا يفهم أن بعض الأرواح وُلدت لتكون لهيبًا. وأنا...أنا لست سوى لهيب حنان.

ليس كل مَن يسقط يُهزم..
ليس كل من يُعتقل يُكسر..

البعض يسقط كي يُعلّم الأرض كيف تنهض، ويُعتقل كي يُثبت للسماء أن الحرية تسكن القلوب لا الأجساد.

وحين يُولد اللهيب في قلب فتاة، فإن العدوّ لا يواجه شخصًا...بل يواجه وطنًا بكامله اختبأ في عينيها.

ففي غزة، لا يُكتب المجد بالحبر، بل بالدم. ولا تولد البطولة من العلن، بل من الزنزانة..من الدموع التي لا يراها أحد، ومن الصراخ المكتوم في قلب امرأةٍ قررت أن تُضيء الطريق...لا أن تسلكه فقط.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى