

قهوة ميتة
كان يتجوّل هاربا من ملاحقة منع العمل الذي بدأ معه بانتخاب الحكومة التي أصبحت بعد شهور مقالة. كلّما اقترب من ربّ عمل خاص رأى في عينيه ومضة طارئة. فإمّا أن يعتذر له مباشرة، أو يعده باتّصال لا يأتي..
كانت لديه ثلاث قطع نقدية متبقية، وهي تكفي لأربعة أكواب ورقية من القهوة لو اشترى "أوقية" من النوع المحروق الثقيل غير المخفف.
فاض صبره من الردود المتكررة. جازف بقرار مصيري، وهو في العادة يصنع قهوته بنفسه في بيته فقط، بقرارٍ مصيريٍ يأتي على القطع الثلاث. فلمح مقهى قديماً كان يعرف مصطفى، عامله القديم الذي ترك المقهى لينشئ مشروعه الخاص، برضىً من صاحب المقهى نفسه. اقتنى عربة خشبية واسعة السطح وأخذ يغلي المشروبات الساخنة فيها للمارة المستعجلين الذين لا يريدون لعب الورق أو شرب الناركيلة.
التلفاز الحديث المعلق في واجهة المقهى لكل الزبائن يبث أخبار الصواريخ الداخلة والخارجة من إيران، وأخبار صواريخ أخرى -أقل عددا بكثير- من غزة المدمرة وعليها. قلّب الصبي الجديد، في عطلته المدرسية، القنوات بناء على طلب زبائن تركوا أوراق لعبهم ونراكيلهم لبرهات. أزعجه معرفة الأخبار لأنها تعطيه تشاؤما أكثر بما ينتظر طلبات عمله، ولأنها عربية طليقة بلهجات ثقيلة تستنكر وتستجدي في آن.
رأى مصطفى يحرّك سخان القهوة النحاسي الكبير بذراعه الطويلة على مخروط متوسع في الأسفل، وينادي على مشاريبه. تذكّر سخانا مشابها رآه في مدينة بعيدة كان تبيع الكوب بقطعة نقدية واحدة، واعتقد أنه سينال كوبا من القهوة الساخنة المتخمّرة جيدا.
سأل مصطفى بعد مصافحته عن السعر. ردّ عليه بكرم وأريحية زائفين:
– مثلما تريد أستاذ أن تدفع..
كان ذلك يعني ثمناً أكبر من المستحق. فواجهه:
– أعرف أن الكوب بقطعة واحدة.
استنكر مصطفى بسرعة:
– أين هذا؟!
تشاطره عليه لم يفت في عضده. أثبت له مؤكّدا:
– في جنين قهوة لذيذة ساخنة ورخيصة بقطعة واحدة فقط.
– هذا في جنين.. هنا استيراد وأسعار عالمية، وأجرة بلدية وضرائب، ومحال... كل شيء غال. المخيم هدموه والآن لن تجد شيئا بالمرّة..
أتى صوت عربي غير فصيح من القناة الفصيحة، يتحدّث عن "المخرّبين والإرهاب والقنبلة النووية"..
أشار لمصطفى بإصبعه يكاد يلمس أذنه مؤمئاً للمتحدث العبريّ:
– معك حق.. كم تبيعني الكوب؟
– عشانك 2 قطعة نقدية..
– توكلنا على الله.
لم يصبّ له من السخان النحاسي ذي الذراع الطويلة، بل سكب ماءً ساخنا من حافظة جاهزة ووضعها في غلاية على النار مباشرة.
بينما ينتظر ارتفاع موجة القهوة إلى عنق الغلاية ضربت سيارة شرطاً رجلا، مواطنا، عن جانبها. تمالك الرجل نفسه من السقوط أرضاً قبل أن يرتطم بالعربة. كان في مطلع الخمسينيات والشرطيون الذين نزلوا شبابا في العشرين. أحاطوا به وتفحصوه، فلمّا تأكد من سلامته كادوا ينتزعون من عنقه ياقته، وأوشكوا على ضربه وهو ينحاز وينكمش ويتجانب ويتمدّد. أخيراً خلّص نفسه بالاعتذار واستعاد بطاقته الشخصية الوحيدة التي لم تتجعلك، متعّهداً بعدم رفع شكوى.
شاهد مصطفى ينهي القهوة دون أن يرى سقفها من الرغوة البُنّية. ارتشف الرشفة الأولى وتذوّق الطعم بعد الحرارة. كان مذاقا سيئاً كأن البُنّ من بقايا قهوة سابقة مضافا إليه الهال فقط.
بصق في إثر سيارة الشرطة الذاهبة الطعم والسيكارة، وصرخ:
– تبيعني قهوة ميّتة؟ يا خسارة القطعتين!
– بقطعتين لن تجد الآن قهوة في أي مكان، حيّة!
من سوء الحظ أن رذاذا خفيفاً جدا من كتلة البصاق أصاب الأربعيني الذي خلّص نفسه.