الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم فنان عبدالرحمن حسن

صورة

كان مستلقيا تحت أشعة الشمس الحارقة وهي تلسعه بلهيبها ليستيقظ دون جدوى.. كل ذلك النباح والمواء الأجوف لم يحرك فيه ساكنا ... وحدها العصافير الطريدة أستطاعت أن تجذب عينيه لها وهي تزقزق في العراء

.. حاول أن يكبح سؤالا سخيفا كان يتمرغ في صدره دون هوادة لكنه فر إلى رأسه قبل أن ينزلق إلى حلقه ويحرقه... أراد أن يبتلعه إلى الأبد لكنه لم يفلح .. "هل كل الأطفال يمتطون عنقها حين يرحلون؟؟"... خرج صوته مبحوحا مختنقا بأحزان الذين لم يعد لهم حق البكاء .. لا يوجد أي معنى في التفكير العقيم حول وجهة الذهاب ولو همسا بين الصدور فالجميع يعرف إلى أين الرحيل.. حاول أن يحرك رأسه لينفض عنه صدى ذلك السؤال (وصدأها أيضا) لكن الأحجار تحته نصحته بألا يفعل ذلك بطريقتها الحازمة .. استطاع أخيرا أن يستوعب موقع جسده من كل ذلك الركام .. الركام؟؟.. بل الأحجار الكريمة، هكذا أعتاد أن يسميها دائما (في الحرب والسلم) " لماذا تسميها أحجارا كريمة؟؟

"تذكر سؤال صديقه له في يوم هادئ تحت سماء صافية عندما نهاه عن ركل الأحجار هكذا بقسوة ... "إنها أحجار كريمة بالطبع لقد حنت ظهورها لأجلنا في البيوت سنين عددا، وهي أول من تمسك بأيدي أطفالنا قبل كبارنا عند الوقوف أمام العدو ، أليس من الجحود ألا نحترم موتاها ونركلها؟!! "... كان يختم دائما جميع محادثاته بمناسبة وغير مناسبة مقولته الشهيرة على مسامع الجميع :"لا يحتكر الكرم أشجار الزيتون فقط !!" .. وفي ذلك الهدوء المخيف إلا من النباح والمواء تساءل لأول مرة في حياته ربما إن كان حقا يعني ذلك ام لأنه فقط لم يرى الزيتون منذ عقود!!

.. لم يستطع أن يجيب .. ربما لأنه ليس مستعدا لأن يؤكد الإجابة .. وربما لأنه لا يريد أن يتذكر السبب... ثم إن الصداع كان أقوى من أي شيء .. مالذي حدث؟؟ قالها بعفوية دون قصد ... أراد أن يحرك يديه لكنه لم يستطع لقد كانت الأحجار الحميمة تحتضنهما ... بطرف عينيه التي لا تزال ترى الحقيقة شاهد نهرا أحمر يتدفق من خلف أذنيه على قميصه ثم يندلق على الصخرة بجانبه لتتناثر أشلاءها في كل مكان .. تساءل في نفسه ان كان دمه طاهرا وهو ينسكب هكذا.. "وهل نحن ننجسها عندما نقضي حاجتنا هنا؟؟ " كان رفاق البنادق يباغتونه بالسؤال عندما يرون اصراره على عدم التغوط في المكان حتى وان كان موحشا...

"اليهود فقط من ينجسونها" قالها بصوت مبحوح الآن دون أن يسمعه أحد ... مالذي حدث؟؟ لقد كان متيقنا أنه يكرر هذا السؤال ليمنع عقله من النوم .. أم أنه حقا يريد أن يسمع الإجابة؟؟! .. تذكر قبل أن يغفي ذلك السؤال الغريب على لسان أحد أبطال السينما" من ذا الذي يريد أن يبرر حياته كلها؟؟
"صوت ما كان يهمس في قلبه ويقول "من يؤمن بالله واليوم الآخر يود أن يفعل ذلك".. مالذي حدث؟؟ .. كررت الأصداء نفسها على غير العادة كي لا تضيع المأساة في غياهب النسيان .. أجابت الجدران: لن ينسى أحد عندما كان يودع والدته ويرى الأشياء كلها تودعه ... أجابت السقوف : لن ينسى أحد تلك الدموع السخية وهي تتكاثف حول عنقه مشكلة حرزا من نوع خاص لا يعرفه سوى الأمهات اللواتي حفظن فلذات أكبادهن فيها.. أجابت الثياب: لم يزل يتحسس أثرها من خلفه بعد أن أضحت المحاجر جافة لا تفيض سوى بالرماد .. مالذي حدث؟؟ كررت الأصداء نفسها مرة أخرى.. أجابت الحيوانات: صراخ وعويل تحت طبول الشيطان يقابله هدوء أجش وقرآن يصدح في القلوب .. وحدنا فقط من نسمعه.. مالذي حدث؟؟ أجابت الأرض : نستقبل رجالا عقدوا البيعة الكبرى مع خالقهم فنؤدي أمانتنا بحفظ الأبدان الرابحة من الانكماش ونصب عليهم من مسك الرحمن حتى نردها لهم في يوم لا تؤخره ساعة ولا يضيعه مكان .. مالذي حدث؟؟ أجاب التراب:

أجساد ممزقة وأشلاء متناثرة نختلط معها كي نواريها خلفنا والله وحده يعلم هوية مهدها ومقر لحدها ... كيف وصلت إلى هنا؟؟ نقر ذلك السؤال رأسه كي يستيقظ ويضع اللمسة الأخيرة... تذكر تلك القذيفة الهوجاء وهي تنفجر أمامه ثم ها هو ذا مصلوب على هذه الأرض ... شعر فجأة بيده التي لا يراها انها ممسكة بعصا... هل هي عصا السنوار يا ترى؟؟ تذكر جلسته الشهيرة وهو يبتسم في وجه الركام .. لقد كان يعلم أيضا أنها أحجار كريمة بلا شك .. ألا يستطيع هو أن يختم حياته بتلك الهيئة أيضا ليكون علامة على الطريق؟؟.. لكن من سيلتقط الصورة.. قال بصوت عال على غير العادة.. اجابته غزة بأكملها وقالت: نحن نفعلها.. نحن لا ننسى... أرخى رأسه قبل أن يلتف الساق بالساق ثم قام بالعد ببطء...

واحد
إثنان
ثلاثة
إبتسامة ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى