الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم محمد صالح البحر

صحراء الفرح

«1»

وكأنكِ يا أمي كنتِ تطلعين على الغيب في هذه الساعة، وأنا بكامل سترتي العسكرية، وحقيبتي فوق كتفي، كنتُ أستعد للرحيل إلى الجبهة عندما جاءت فاطمة لتودعني، فانفرجتْ شفتاكِ عن نصف ابتسامة كي لا تراها فاطمة، وهمستِ بود:

ـ خطيبتك جات يا ولد.

ولكزتيني خفيفا وأنتِ تتوارين داخل البيت، كنتِ تُتيحين للوداع مساحته التي تستوعب لمسة اليد، وامتداد جسر النظرات بين عيوننا، وعندما انتهينا سألتكِ مازحا:

ـ أتريدين شيئا من الجبهة يا أمي؟

كنتُ أريد أن أشكركِ على الوقت الذى وَهبتيه لي، لكنكِ أكملتِ نصف ابتسامتكِ السابقة وأنتِ تنظرين إلى فاطمة، وأكملتِ الود:

ـــ أريدُ حمامة بيضاء.

«2»

حين تُقبل الطائرة ترج المكان بأزيزها العالي، ترمي بقذائفها النارية من حولنا، فنتناثر في قيعان الحفر على الجانب الغربي حتى تهدأ، وتذهب لتأخذ دورتها من جديد، في هذه الأثناء القليلة تكون على أحدنا مهمة تجهيز الصاروخ، وتوجيهه نحوها، استدارتْ الطائرة، وقد رسمتْ نجمتها السداسية بشكل بارز، فمرق الصاروخ كسهم ناري، وقد أطلقتُه بكل ما أوتيتْ عيناي من دقة، يطاردها حتى يلحق بمؤخرتها، فتنفجر وتتناثر شظاياها في الفضاء، لتستقر في نهاية الأمر على الأرض نِتفا صغيرة، مطفأة، ظللتُ بعدها أحملق في الفضاء الأسود، أبحث عن الحمامة البيضاء بلا جدوى، حدقتُ من حولي فلم أر شيئا، لكنني حين أمعنتُ النظر في الجانب الشرقي وجدتها على الشاطئ الآخر، فعشقته وتمنيتُ لو أنني أستطيع العبور إليه، لا أعرف كيف وصلتْ أمنيتي إليها، لكنني وجدتها تطير، وتوغل في طيرانها نحو الشرق، كأنها تشوقني إليه، فهفتْ روحي خلفها، حتى استحالتْ الحمامة إلى نقطة صغيرة في الفضاء، تصغر وتختفي.

«3»

مات أخي خالد في حرب النكسة، فرفضتْ أمي أن تلبس السواد، قالت بحسم إنه لم يَمُت، بل ذهب ليظل حيّا إلى الأبد، وأصرتْ أن تقرأ فاتحتي على خطيبته فاطمة، حتى يأذن الوقت بإتمام الزفاف، بعده بثلاث سنوات مات أبي، المساعد أول بالجيش، في إحدى غارات حرب الاستنزاف، فوسَّدته أمي في القبر بيديها، وظلتْ على حالها أمدا طويلا، تقرأ له القرآن كل مساء، وتزور قبره كل يوم خميس، قالت:

ـــ اشتاق إلى خالد وذهب لرؤيته، طول عمره حنين.

وأعلنتْ خطبتي لفاطمة رسميا قبل ذهابي إلى التجنيد، وفي العُرس الصغير أمسكتْ بكتفيّ حتى كادت تعصرهما، وأخذتني في حضنها، كانت تربت على ظهري بكل الحنان وهى تغالب دموعها، وتتمتم:

ـــ ساعدتك في كل شيء، لكن الفرح الكبير عليك يا سبع.

وكنتُ أشم فيها رائحة الفرح عندما تركتني لتثبت في وجه الحائط الطيني، الذى يحمل صورة أبي، وصورة خالد أخي الأكبر.

«4»

تُرقدني أمي على ركبتها وهى جالسة على الأرض، ويتوافق تربيت يديها على ظهري مع اهتزازات ركبتها الواهنة، تهمس:

ـ نام، نام، وأجيب لك جوزين حمام.

وتنحني عليّ بكل صدرها ورأسها، فيعُمني الحنان والدفء، أعمل نفسي نائما لأُطيل أمد بقائي في نعومتها، فترفعني إلى مكاني فوق الكنبة، وتدثرني باللحاف، حتى إذا صعدتْ إلى السطح أتسلل وراءها، كنتُ أعشق مراقبتها وهي تهدهد حمائمها البيض، وتمسح على ريشها:

ـ واحدة لخالد، وواحدة لفاطمة، وواحدة للولد الصغير.

فأضحك بملء فمي، وأقول:

ـ أنا أريد اثنين.

فتنتبه لوجودي، وتبتسم نصف ابتسامتها الممتلئة بالحياة والدفء.

ماذا أستطيع أن أفعل لأمي، وأنا أحبها كل هذا الحب؟!

عقارب الساعة الآن تقترب من الثانية ظهرا، بقيتْ ثلاث ساعات ونصف على انطلاق مدفع الإفطار، منذ قليل هاجمتْ الطائرات المعادية قواتنا في مواقع متفرقة على طول خليج السويس، وهربتْ كعادتها، لقد أصبحتْ غاراتهم معتادة، ولا تقلقنا في شيء، فقد عرفنا أنها ضربات الخائف المرتجف، التي تهرب قبل أن تُكمل مهمتها مخافة الموت، حتى أننا الآن نواجهها ونحن نستمع إلى الأغاني في أجهزة الراديو، ننفخ قوارب المطاط، نُخرج قِطَع الكباري الحديدية من مخابئها، ونزرع أمام كل خيمة من خيامنا وردة بيضاء، ووردة حمراء، ما كادتْ زهورها تتفتح حتى سبحتْ طائراتنا في الفضاء، لتدك مواقع العدو في الجانب الآخر، وسبحتْ الزوارق المطاطية على سطح مياه القناة، وهي تقاوم القذائف والرصاصات، تبعتها العربات البرمائية المدرعة، وبكل قوة انطلقتْ من خلفها نيران المدفعية بغير تردد، أو توقف لالتقاط الأنفاس، فمنعتْ العدو الرابض خلف "خط بارليف" من أن يطل برأسه، أو يجمع شتات نفسه، حتى سقط وأزهرتْ ورودنا على الجانب الغربي.

«5»

أين حمامتي البيضاء؟!

بعد عبور قناة السويس، وتحطيم الساتر الترابي، تحجرتْ الصحراء في وجوهنا، تحصن العدو خلف بقايا "خط بارليف"، داخل بناية ضخمة من الكتل الخرسانية المدعمة بأسياخ الحديد، وعوارض الصُلب، وألواح الإسمنت المسلح السميكة، التي صُنعتْ منها الجدران والأسقف، وتحوطها الآلاف من أجْوِلة الرمل الثقيلة، المرتبة ترتيبا دقيقا، وبدا الموقع أكثر خطورة بتواجده فوق "تبة" عالية، راح العدو من ورائها يلم شتات نفسه الممزقة، كان القتال محتدما، ورغم شسوعها أضحتْ الصحراء في وجوهنا مثل ثُقب صغير لإبرة حائك، وحين غشى الليل وقف القائد منتصبا فوق رؤوسنا، وهو يديم النظر في الوجوه، كان يبغي انتقاء مجموعة لمهمة خاصة، يقتحم بها موقع العدو فوق "التبة"، ليفتح ثغرة لقواتنا المتقدمة، وكنتُ الأسرع في التقدم، فما إن أفصح القائد عن مراده حتى شعرتُ بأنني قاب قوسين أو أدنى من حمامتي البيضاء، ابتسمتُ فرحا، وأحسستُ أنني ممتلئ إلى حد التخمة، وما رضيتْ نفسي عمل شيء آخر، حتى الخطاب الذى كنت أكتبه لأمي على فترات متقطعة، طويته ودسسته في جيب سترتي، فهل ثمة الآن وقت يمكن أن يُنفق؟! والحمامة البيضاء تلوح بجناحيها على البُعد، والجناحان يستطيلان، ويتضخمان فوق "التبة"، حتى ظننتُ أنها ستطير مرة أخرى.

«6»

عندما انتهتْ قفزاتنا المتسللة تحت أجنحة الظلام، والخفيفة رغم معدات القتال التي نحملها، عرفنا أننا في مواجهة "التبة"، وها هي تقف فوقنا مرتفعة وسامقة، تكاد لا تطاولها العيون التي خرجتْ من تحت الخوذات، وارتفعتْ لترمقها حتى أطراف السماء، التي تختفي نجومها وتظهر من خلف تحركات العدو الرابض في الأعلى، كأنها تكشف لنا عن موقعه، وتهدهد على قلوبنا، كنا نجاهد تعبا ثقيلا، رمته فوق كواهلنا حِدَّة الترقب، وطول الطريق الذي تسللناه في خطوط حلزونية، لنتفادى حقول الألغام التي زرعها العدو كشِراك للقنص، وجوهنا السمراء، المُشَربة بالحُمرة الخفيفة، زادت حُمرتها في وهج الأمل الذى يسطع أمامها، وأنوفنا الحادة استطالتْ لتحتك بالنجوم في السماء، شفاهنا تزداد انضماما وتحديا، والصمت يدثرنا في انتظار اللحظة، ابتسم القائد في وجوهنا فشددنا الأسلحة إلى الصدور، وانتصبتْ أجسادنا في تحدٍ واضح للصحراء والظلام والتعب والعدو الرابض في الأعلى، وهكذا كنا نجري ونحن نصعد "التبة" في قفزات سريعة ومتلاحقة، لا تكاد أقدامنا تترك آثارها على الرمال، بل تمرق وتطير وتهفو، حتى انكشف العدو أمامنا، فاحتوتنا المواجهة بجناحيها، وتحت الضوء المتلاحق لتدفق الرصاص، ونيران القنابل، رأيتهم يتساقطون كهشيم في وجه ريح عاتبة، واحدا في أثر واحد، حتى سقط الموقع عن آخره، وحتى تفتتتْ كتله الخرسانية وألواحه الحديدية نتفا متناهية في الصِغر، تتطاير في السماء، ثم تهوى إلى الأرض.

إحساسان ملآ روحي، إحساس فَرِح بالنصر، وبالحمامة البيضاء التي حطَّتْ على كتفي، وإحساس حذر وأنا أشعر بدبيب خفيف يسري من خلفي، كأنه آخر حركة تأتي من جندي العدو وهو يلتقط أنفاسه الأخيرة، وبكل الخوف استقرتْ رصاصته في ظهري.

«7»

أصبح من المألوف الآن أن أشم رائحة موتاهم، وأن أتأبط تحت ذراعيّ الفرح، لقد كان من الغريب في ساحة المعسكر، هناك على الجانب الغربي، أن أخرج من خيمتي فلا أجد الحمامة البيضاء، التي طالما شاركتْ أمي غناءً امتد في جذع الزمن، لكنني الآن في ساحة الغيم والسحائب البيضاء تغشى عينيّ، تقفز إلى ذهني فكرة تبرر عدم وجودها، وتحاول أن ترسل بأشعتها داخلي، فتخلق ظلالا كثيفة لعالم من الهدوء، لعل استيقاظي جاء متأخرا، فقد كان عليّ أن أحتمل الليل بكل ثقل ظلمته، وكثافة وطأته على النفس، وجبروت امتداده الذى يظل جاثما، حتى يُبعث في النفس حلم الإرادة والتحقق، أشعر بألم في ظهري، وسخونة تنبعث من موضع الرصاص الشيطاني، الذى اخترق الظهر متخفيا وخائفا وعاجزا عن المواجهة، لو قُدِّرَ الموت لي فلا يجب أن ألقاه منكفئا على وجهى، الألم والسخونة أجاهدهما، وأجمع شتات العزيمة المنفرط عقدها مع ترنح الجسد، أقاوم الرصاص المقذوف من الخلف، فأرجع إلى الوراء خطوة، سلاحي أرفعه بكلتا يدىّ إلى الأعلى، مستقبلا النجوم، ولانهائية البراح الممتد إلى عنان السماء، ويزيد اتساعه كلما نزل الجسد إلى الأرض، ساقطا على رمال الصحراء التي تزداد نعومتها وكثافتها من تحتي، لتشكل فراشا طريا يبتسم وهو يستقبل زفاف الجسد القادم، وعندما احتواني فراش الرمل تماما انفجرتْ الدماء من تحتي، ثم غاصتْ في الرمل، ثم تفتحتْ ورودا بيضاء وحمراء، تُعَبِّق المكان بأريج رائحتها المفتول بروائح الفل والعنبر، وتنبعث فيها جميعا روح طيبة، لعلها تلك التي خرجتْ من جسدي المسجى، لتتجسد في نهاية الأمر حمامة بيضاء، تشق ساحة الغيم، وتحلق فوق السحب، وتنكشف في وجهها أبواب السماء عن عرس بهي، لفتى تزفه الملائكة، وتحوطه الحور العين، وتلف من حوله نسمات عليلة، يستنشقها بتؤدة وعلى مهل وبكل اللذة، كالذي يستنشق ريح أهل الجنة، وهم يحثون الخطى نحوه.

«8»

وكأنكِ يا أمي كنتِ تطلعين على الغيب في هذه الساعة، وأنا بكامل ثيابي البيضاء، التي ترفرف من حولي وأنا أُحلق في سماء البيت، أرقبكِ وأنتِ تجلسين في ساحة البيت على الكنبة بكل العزة، وبكل الفرح، وإلى جواركِ فاطمة، تتسمعان الأغاني الفرحانة المنبعثة من الراديو الخشبي الكبير، والزغاريد المدوية التي تفترش سماء الشوارع في بلدتنا، كان قلبكِ يستشعر قدومي فتربتين على كتف فاطمة، تقبلين خدها وتهمسين بأذنها:

ـ خطيبك وصل.

حتى إذا قرع زملائي باب البيت، وهم يحملون النبأ ملفوفا في العلم الذى تزينه الألوان البيضاء والحمراء والسوداء، ويتوسطه النسر كأنما في حالة ترقب دائم، قامتْ فاطمة ترحب بهم، وقمتِ أنتِ إلى الغرفة الداخلية تحضرين صورتي التي يزينها البرواز الكبير، لتأخذ مكانها الذى رسمته يداكِ إلى جوار الأب والأخ الأكبر، ليُضيء جدار بيتنا الطيني بثلاث شمعات لا تنطفئ أبدا، فأهبط من سماء البيت بهدوء شديد، وأستوى داخل صورتي، أرنو إليكِ وقد توهج وجهكِ بنور الشمعات الثلاث، ترقصين وتغنين وتزغردين، وتبتسمين ابتسامات فرحانة وكاملة في وجوهنا، حتى تدخلنا الحمية، فنقفز نحن الثلاثة معا، لنشارككِ رقصتكِ الفرحانة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى