

صانع اللافتات
بالضبط لا أدري ما الذي جذبني إليها، كانت مرتبكة مثل أي شخص آخر يحاول أن يكتب شيئًا استنادًا إلى حائط وهو واقف... فتاة رقيقة ذات لافتة، ليست بارعة الحسن وهي مشتتة... ولكنها علقت بشبكيتي.
تسمحيلي؟
التفتتْ إليّ باستغراب، أنزلتُ حقيبتي عن ظهري، وأخرجتُ منها كشكولاً أستند إليه، ثم تناولتُ القلم من يدها بينما أسأل:
عايزة تكتبي ايه؟
مش عارفة... حاجة زي: «امشي»، «ارحل»... «مع السلامة»...
تلمع الفكرة برأسي.. أكتب على الفور: "باي مبارك! موبايلات بقى!" وأرفع اللافتة بوجهها.. أتمنى أن تعجبها عبارتي، أو جرأتي، أو خطي الجميل، أو خفة ظلي، أو نظرة الاهتمام بعيني، أو ابتسامة الود بشفاهي، أو القميص المهندم الذي أرتديه، أو الحزام أو الحذاء أو........
تخطف اللافتة وتُسرع في الالتحام بالمظاهرة... تعلق الكلمة بحلقي، تتجمد نظرة الخذلان على ظهرها، تلتفت لي بعد عدة خطوات:
إنتَ فنان!
وتتابع التقدم.
منذ الصباح، وفي نفس المكان، أقف وسط مجموعة من المتظاهرين يكفي صوت الواحد منهم ليصم أذني إلى الأبد... أود لو أستعير حماسهم لكن يفضحني الملل:
"يسقط
يسقط
حسني مبارك"
أتفحص في الوجوه من جديد. تزول الرتابة في لحظة وتتملكني الحماسة. أرفع يدي إلى أقصاها محاولاً الإشارة، أدعمها بالأخرى ملوّحًا بكلتيهما، تنتبه لي، تُشرق لرؤيتي. أحاول أن أخترق الحشد لأصل إليها بينما أعلي صوتي:
عايز أتكلم معاكي!
يندفع مجموعة من المتظاهرين فيحولون بيننا... تبتعد في المسافة في حين هيئتها مقبلة، تعلي من صوتها:
متخافش... هنتقابل تاني!
أكف عن المحاولة مع زيادة أولئك المتحمسين بيننا، ولكني على الأقل أسأل:
طب إنتي اسمك ايه؟
تردد شيئًا ما لكني لا أستيقنه.
أجلس إلى الرصيف ملتقطًا أنفاسي.. أطلق زفيرًا عاليًا، وألتفت إلى الجالس جواري:
يعني وعلى إيه هدة الحيل دي؟ يعني إحنا اللي هنغير الدنيا؟
يهب واقفًا، وينظر لي من أعلى لأسفل، ويغادر. أستمر في تدليك قدمي، تعلو الأصوات من حولي، يتكون حشد بسرعة رهيبة حول بقعة ما جواري، أحمل قدمي وألقي بها وسط هذا الجمع، أحاول الاختراق، لا أنكر أنها محاولات غير جادة. لا أحد يرغب حقًا في رؤية ما قد أراه.
فتاة رقيقة ذات لافتة، ليست بارعة الحسن وهي ميتة، ولكنها أدمت شبكيتي.
لا أدري ماذا فعلت، أو حتى: كيف شعرت، فقط أفقت على نفسي جالسًا عند قدميها ومجهشًا بالبكاء. امتدت يد ترفع اللافتة التي اخترقها الرصاص لتغطي بها وجهها، في حين امتدت اليد الأخرى تربت على كتفي:
إنت تعرفها؟
أصرخ بعلو الصوت:
أيوة أعرفها، أيوة طبعا أعرفها
أصمت للحظة، ألتفت إلى محدّثي فننطق معًا بذات الفم:
هي اسمها إيه؟
أمسح عيني، أنفي، وجهي، ذاتي، تاريخي، وأقف ثابتًا في الميدان. أرفع لافتة تبدو عليها فتاة رقيقة ذات لافتة ليست بارعة الجمال وهي دامية ولكنها جميلة إلى الحد الذي لن تتحمله شبكيتك، مع عبارة: "ماتت، عشان كانت ماسكة يافطة زي دي"
أشعر بوخز الألم في ذراعي، لكني لن أنزل اللافتة. أشعر بوخز الدموع في عيني، لكني لن أنزل اللافتة. يقترب مني أحد الرفاق. يتفحص قليلاً في لافتتي:
بقولك إيه يا باشا: إنتَ خطك حلو..
يلتقط لافتة من تحت إبطه:
ممكن تكتبلي هنا؟
أعتقد يمكنني أن أُنزل اللافتة.
أفترش ركنًا من الميدان وسط أوراقي وأقلامي وألواني. أنظر إلى شاب ذي شعر كثيف يمر أمامي، أتابعه بنظري حتى يتخطاني بثوانٍ. من ثم أستوقفه:
لحظة يا كابتن!
أتوقع أنه يقف، وينظر إليّ، ولكني لا أنظر إليه، أنهمك في كتابة شيء ما.. ثم أرفع رأسي وأسلمه اللافتة. ينظر إليها: "هتمشي هتمشي، انجز، عشان أروح أحلق" يغمز لي بعينه ثم يرفع اللافتة ويمضي.
يقترب مني طفل في ملابس رثة:
لو سمحت يا كابتن، فين كنتاكي؟
أندهش للسؤال، أرده إليه:
كنتاكي؟
أيوة
طب تعالى معايا
ألتقط كفه، وأوقفه أمام بائع ساندوتشات الجبن والجرجير:
آدي يا سيدي كنتاكي!
أشري شطيرتين للطفل، بينما أمازح البائع:
هو أنا لو باكل كنتاكي كنت عمري طلعت في مظاهرة زي دي؟
يبادلني الابتسام.
أتجول في الميدان حاملاً كشكول رسمي، وممسكًا بيد الطفل:
مقلتليش إنتَ إيه اللي جابك هنا؟
مقلتلك عشان كنتاكي
يشوب سؤالي شبهة ضحكة:
وعلى كدا عجبك؟
يجيبني ببراءة:
هو حلو، بس طعمه زي الجبنة بالجرجير بالظبط.
ألتفت لأنظر في عينيه بذهول. أنحني لأصير بطوله، فلربما يظنني بعمره:
إنت اسمك ايه يا حبيبي؟
(زوكا)
وجاي لوحدك يا (زوكا)؟
أيوة
طب ياللا روّح بقى عشان أمك متقلقش عليك
يجيبني ببساطة:
معنديش أم
أستحثه بقلق:
ولا أب، ولا أخ؟
بقولك معرفليش حد، طفل شوارع يعني، فهمت كدا؟
يعم الهدوء أخيرًا على الميدان مع تأخر الوقت ونوم السهرانين. أطوي الجاكيت عليّ جيدًا ثم أنتبه للطفل. أخلع الجاكيت وأضعه عليه:
متأكد يا بني إنك مش عايز تمشي؟
يدير إليّ السؤال بتحدٍ:
وإنت مش هتمشي؟
أنا مش همشي إلاّ أما هو يمشي
هو مين؟
اللي كل الناس دي مش هتمشي إلا أما هو يمشي
يسأل بديهيًا:
وهو مبيمشيش ليه؟
أشاكسه:
هو مين؟
يضحك باستحياء. أداعبه بدغدغات على جانبيه.. تتخلل ضحكاته روحي.. أود لو يستمر ولكني مع هذا أخبره:
يا بني نام بقى إنت مبتتهدش؟ دي بكرة مليونية.
أتمدد وسط حديقة الميدان باسطًا ذراعي له، وأضممه بذراعي الحر، أكاد أن أغرق في النوم، وفي تلك اللحظة بين عالمنا والعالم الآخر ألمح شبحًا يقترب فأستعيد وعيي متحفزًا، لكنها سيدة بسيطة في خمار أبيض، تسألني:
إنتو معاكوش بطانية؟
معرفناش ندخلها، هنحاول تاني بكره
تتوجه بحديثها إلى الطفل:
طب قوم يا بني، تعالى نام مع عيالي في الخيمة
يتوجه بحديثه إليّ:
لأ، أنا هفضل هنا معاك
لأ روح معاها يا (زوكا)، دا سواد الليل
عايز أفضل معاك
مهو شوف أما أقولك، لو مرحتش إنت هروح أنا.... هاااااااااااا؟
يقوم مرتبكًا، ويسير معها ملتفتًا إلى الوراء.. أتابعه بنظري حتى أطمئن إلى دخوله الخيمة، أخرج من جيبي صورة فتاة رقيقة ذات لافتة ليست بارعة الجمال وهي نائمة ولكنها تتوسد شبكيتي، أقبّلها هامسًا: "تصبحي على خير". ثم أغلق عيني وأنام.
أصحو مع ساعات الصباح الأولى لأجد (زوكا) نائمًا جواري. أبتسم وأقبل جبينه، فيفتح عينيه ويبادلني الابتسام:
أنا كدا كدا كنت في الشارع.. بس هنا: ليا أهل وناس.
أقف قبل الزحام أطالع الجرائد المفروشة على الأرض، بينما يلعب (زوكا) بالكرة مع مجموعة من الأطفال. تنحرف الكرة لترطم وجه أحدهم. كان شخصًا عشوائيًا لكني أؤكد أنه لو كان شبهة ترصد في اختيار أضخم شخص ترطمه الكرة، لما كان الاختيار وقع على غيره.
هب صارخًا بالطفل:
إنتَ بتحدف الكورة عليا أنا يا بن المجنونة؟
متغلطش في أمي!
يمد يده الغليظة محاولاً الإمساك بـ (زوكا):
أمك يا بن الـ (....)!
و (زوكا) يحاول الإمساك بخناقه ظانًّا ببراءة أنه يستطيع دفعه، ولا يكف يردد:
قلتلك متغلطش في أمي!
أركض إليهم، أحاول جاهدًا أن أحول بينهما:
ميقصدش والله يا باشا... حقك عليا أنا...
أطوّق (زوكا) بذراعي وأكمم فمه بيدي بينما أسحبه بعيدًا:
بس ياض، تعالى معايا
يتوجه الرجل الفظ بحديثه إليّ:
مهو لو كان ابنك متربي كويس مكانش شلفط مخاليق ربنا!
تخترق الكلمة أذني... "ابنك؟؟"... أستمد منها قوة لا أفهمها:
ما قلنا خلاص يا كابتن! مش سيرة
خلاص؟ وأنا أعمل إيه بـ «خلاص» دي؟ أنا عايز تعويض
عايز كام؟
سيجارتين وكوباية شاي.
أتقدم مع (زوكا) والرجل الفظ إلى بائع الشاي الذي يعلق لافتة: "شاي التنحي". أشير للبائع:
اتنين شاي لو سمحت.
يتابع الرجل الفظ كلامه:
لا والأكادة بعد كل البلاوي اللي أنا عايش فيها دي، يطلع هو بسلامته يقولك: "أنا فاض بيا الكيل"! فاض بيه الكيل ليه إن شاء الله؟ راجل فقيع بصحيح.
أضع كوب الشاي جانبًا، وأفتح كشكولي مُعدًّا لافتة، في حين أقول للرجل الفظ ـ الذي بدأت أشك في كونه فظًّا:
اشرب الشاي.
ينظر للطفل الذي يحتمي خلفي، ثم يمد يده يداعب رأسه:
طب ولما إنت طلعت طفل شوارع زعلت قوي ليه لما شتمت أمك؟
قلتلك متشتمش أمي
أقاطعهما إذ أمد يدي للرجل الفظ ذي القلب الطيب باللافتة، يتناولها ويقرأ:
"فاض بيك الكيل ليه يا ريس؟ في حد أهانك أو ضربك أو كهربك في القسم؟ مش عارف تشتغل وقاعد ع القهوة عشان معندكش واسطة؟ مش لاقي حق الدروس الخصوصية لعيالك عشان تعليمهم الحكومي بايظ؟ مش عارف تعالج ابنك عشان عايزين تأمين قبل ما يحجزوه في المستشفى؟ ليه يا ريس فاض بيك الكيل؟"
أتسمر أمام شاشة الميدان حيث تعرض خطاب (عمر سليمان):
"في هذه الظروف العصيبة ـ أشعر أعصابي مشدودة إلى حد الانقطاع ـ التي تمر بها البلاد ـ تتفتت خلاياي وتتحلل ـ قرر الرئيس محمد حسني مبارك ـ تتخدر يدي وروحي ورجلي ـ تخليه....................................................."
تكتسب كل الحواس بهاءها فجأة: أسمع، وأرى، وأصيح، وألمس، وأشم: «الحرية». يحضنني رجل لا أعرفه، أنغمس في الحضن حتى القاع، أرى نسخًا من أوراقي التي كانت بالأدراج مطوية: شهادة ميلادي، شهادة تخرجي من كلية الفنون الجميلة، شهادة إتمام الخدمة العسكرية.
أرى كل الوجوه التي أحببتها: أمي، أبي، إخوتي، أصدقائي، أساتذتي.. ألمح وجهًا لفتاة رقيقة ذات لافتة: هي بارعة الجمال وهي شهيدة وتسكن دومًا شبكيتي.. أهديها دمعتين وأبارك النصر.. ألمح وجهًا لـ.......
أرتطم بالوجه يُفيقني.. أتسلل من الحضن، من الميدان، من الدنيا بحثًا عنه. أتصلّب حيث أرمق (زوكا) بالركن. يبادلني نظرة منكسرة. نندفع إلى بعضنا، وننخرط في البكاء.
(تمت)