

ذاكرة البيوت
القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥
كان ذا ست سنوات حين رآهم لأول مرة. جاؤوا مدججين بالأسلحة واللوادر والحقد الأسود، تأكدوا من تجريد السكان من السلاح قبل ذلك بأيام. عتاد عسكري كامل وأهل الخان عُزَّل. أسرع أبوه إلى استخراج شيء من صندوق قديم حين سمع دبيب أقدامهم، وضعه في جيبه في عجالة. أمروا الشباب والرجال فوق السادسة عشرة إلى الخمسين بالخروج أولًا.
صفُّوهم أمام الحائط. هرع أخواه إلى الداخل لينقذا سمكة الزينة، عادا بالسمكة والدورق وفي أعينهم نظرة ظفر، لكنها انطفأت حين وجدا أباهما هناك.
أراد الأب أن يقاوم لكن الحركة مستحيلة، المقاومة معناها إعدام أعضاء أسرته كلهم أمام عينيه قبل الفتك به. الذين قاوموا في مجدل تقطعت أشلاؤهم، أما الناجين فرحلوا بلا عودة... لكن هجومهم اليوم مريب، هناك شيء غامض؛ كيف أدركوا ما يخطط له؟ من أخبرهم بأن العملية كانت لتُنفذ مع أول خيوط النهار؟ أم أنها عقوبة الاحتفال بالتأميم؟ اللوادر والقتل والهلع، نفس ما فعلوه في مَجَدل، بدَّلوا ملامحها واسمها لكن الأرض ما زالت تحمل ذاكرة البيوت.
أرغموهم على الانتحاء جانبًا وأمروهم بخلع ملابسهم. اتفقت عينا الأب مع الأم أن تُجنِّب الأبناء المشهد. صرخت في داخلها ومنحته وداعًا يليق به، لكن عينيها ظلت ثابتة. حاول إيهام أبيه أنه لا يراه. أغمض عينيه ليحتفظ في قلبه بالغضب وهيئة البيت ولحظة القهر البغيضة. سقط الدورق من يد إبراهيم وانداح الماء، حاولت السمكة التمسك بالحياة، لكنها خمدت تمامًا بعد لحظات...
لم يبكِ كباقي الأطفال، كان أبوه ليحزن أن يموت وابنه يبكي. ورث عنه الصبر وقبول القضاء. أراد الاندفاع في عمل كبير، لكن الأم سبقت حركته فجذبته من يده ومضت. لم يُسمح لهم بالنظر إلى الخلف. من ينظر خلفه تنتظره أعين القناصين.
قبض على البركان داخل قلبه بجماع شرايينه. اتسمت نظرة عينيه منذ تلك اللحظة بالثبات على الرغم مما يعتمل داخله. حملوا على البيوت باللوادر فأحالوها إلى ركام. وأصبح خان يونس منطقة محظورة. بيت واحد لم يقربوه، ظل شامخًا بين البيوت المهدمة. لم يظهر صاحبه ولم يكن ضمن المطلوبين، الشيخ مؤيد العلقمي، لم يتعرضوا لبابه، ربما لقدمه على الرغم من أنهم لا يحترمون القِدم. بيت مؤصل في الأرض منذ عهد الإنجليز، وربما قبلهم، لا يذكر أحد في الخان متى بُني لأنه أقدم منهم جميعًا.
لعام كامل لم يُسمح لهم بالعودة؛ استطاعت الأم تدبير خيمة. ثم عادوا ليجدوا الأطلال تنعي ساكنيها، تبكي الحوائط من ذهبوا وما عادوا، ركامٌ تحته أحلام مهدرة لرجالٍ كانوا ينحتون الصبر في صخر الحياة. غيَّب الهدم ذاكرة البيوت، وغيَّبت المقابر الجماعية الجثث. أين رفات أبي؟ أعياك رسم الدار لم يتكلمِ، حتى تكلم كالأصمِّ الأعجمِ . لا تبك من جزع وقاوم، الموت في هذه الأرض ليس كمثله في باقي الأراضي، وإنه لجهاد. نصر أو استشهاد.
وظل بيت العلقمي بلا مساس...
لم تسمح لهم الأم بالاسترسال في الحزن؛ كانون وحطب وسرير كيفما اتفق، ثم اجتهدت في جمع أسباب الحياة، استلتها بصعوبة من براثن اليأس.
تعلَّم قدر ما وسعه الوقت في ضيق شديد وفقر مدقع، أحبوا الحياة إذا ما استطاعوا إليها سبيلا. لم يعرف للشبع طعمًا، ولم يذق الخوخ والتفاح قبل بلوغه العشرين، جاءت به جارة إليهم كهدية حين أُفرج عن أخيه بعد أول اعتقال.. قسمته الأم بين بنيها الثلاث بالتساوي. بين الترحيل والحنق والضنك، لم يترك فرصة لدفع الظلم إلا ابتدرها.. بالحجارة انتفض، بما استطاع من السلاح، بالطعان والسباب والخطابة، اختلفت اسماؤه بين الفدائي والانتحاري والمقاوم، لكنه كان دائمًا في صدر الصفوف.
مراقب أنت في كل الأماكن، إن لم يكن بعيونهم فبأعين الأنذال. استدل الطغاة على مكانه بوشاية علقمي جديد. عشرون عامًا قضاها في قبضة الطغاة وسجونهم، التعذيب والتجويع والعزل الانفرادي. لم يسعوا للتخلص منه، بل لدراسته؛ أي دماء تجري في هذه العروق؟ أزعجتهم نظرة عينيه الصلبة فسعوا في كسرها. ماتت الأم فكتم البركان داخله وأبدى الجَلَد. تعلم لغتهم وحاورهم وجادلهم في الأمور. دخل جندي زنزانته يومًا لينبئه بمقتل أخيه الأكبر في ساحة الوغى. تقبَّل الأمر كأنه جائزة: "هذا هو الموت الذي نحبه". لكنه عاجَله بالجملة الأشد قسوة عن خسارة أمته المعركة.. هنا رأوا دموع عينيه للمرة الأولى.
تفرَّغ للدرس بين جدران السجن، أبى على الوقت أن يذهب سُدى. طيلة العشرين عامًا راوده نفس الحلم، أبوه يخبئ الشيء الذي استخرجه من الصندوق القديم قبل دكِّ البيت، نظرة العلقمي من شرفة منزله مشعلًا سيجارته. ما أهنأ الشقيق بالميتة الهنية.
ظنوا أنهم أدجنوه فقبلوا إطلاق سراحه في صفقة تبادلية. خرج فجعل أول قراراته القضاء على العلقميين. أنشأ وحدة لتقصي الخونة. كان حاسمًا في بطشه بهم وفي إفنائهم. الأرض تضيع والحصار خانق والصديق خذول. ربما كان قاسيًا كما وصفه بعض الرفاق، لكنه جهاد الوقت. درس وخطط لثقب الأرض. ترأس الحركة بعد وفاة القائد غيلة في وطن غريب.. لا بد أن العلاقمة متعددو الأوطان والأشكال.
لم ينس حظه من الدنيا فتزوج. ثم قرر البحث عن رفات أبيه، هناك رسالة معلقة في الغيب يريدها أن تصله. وجده في مقبرة جماعية، عرفه من ملابسه. لم يُبقِ الركامُ سوى فتات عظام. قريبًا من بقايا يديه وجد ما كان يخبئه، مفتاحًا عتيقًا أخذه الأب من الجد قبل أن يستشهد الأخير؛ مفتاح البيت القديم في مجدل.
في سعيهم الجائر للاستيلاء والاستلاب، زاد الطغاة من القيود، أحكموا الخطط وتزودوا بالعلم وشراء الذمم. ضِيَّقوا الخناق وجعلوا الحياة مستحيلة. كان لا بد من عمل كبير. هجم برفاقه هجمة مندفعة محكمة. تسللوا عبر السياج واخترقوا المستحيل وعادوا برهائن. الأمل في مفاوضات تعيد ترتيب القسمة، لكن النتائج كانت مرعبة.
بطشوا جبارين. لم تَعنِهم الغنائم التي راهن عليها فقلبوا الطاولة. غيَّروا معالم الأرض ولجأوا إلى أخسِّ الوسائل. منعوا المياه والوقود. لم يرقبوا في الناس إلًّا ولا ذمة. مئات الآلاف قُتلوا بلا جريرة. الرهان على ضمير العالم خسر. اتُّهِمَ بالعمالة والهناء بأسرته بينما القوم يضرسون الحصرم. أشارت بعض الأقلام إلى أنها خطة موضوعة مذ كان بين القضبان. من فوَّضك لتوقظ الوحش ليفترس الأطفال ويلتهم البصيص الضئيل من الحياة؟
رأى الظنون في أعين الرفاق. لم تضق روحه بالحياة الخانقة تحت الأرض، أطفاله الذي قضوا كل حياتهم كالخُلد لا يرون الشمس، بل ضيقت بالريبة والأسئلة المختبئة خلف الصمت: مغامرة أم مقامرة؟ ضرورة فرضها القهر أم مخاطرة تعجِّل بالنهاية؟ أسمح بها الطغاة لتسريع الوتيرة؟ كيف غفلت الأسيجة الحديدية والإلكترونية عن الهجمة الفذَّة؟ أنتصارٌ أم انكسار؟ عطر أم مَنْشِمٍ أم نسيم الحرية؟ من أوكل إليك مهمة إيقاظ الشيطان؟ ماذا لو أثبت التاريخ أنهم استخدموك لتمنحهم صك البطش وتمرير الطغيان؟
فرد الموت أجنحته العظيمة فوق المدينة، أشلاء في كل مكان، جثثٌ ملقاة على الطرقات، جوع وظمأ وترحال إلى لا أين. لم تجد الكلاب ما تأكله فاستباحت لحوم البشر. من ينظر خلفه يقنصه طاغية. قُطع المداد وتخلَّى الرفيق وضاقت الأنفس وبلغت القلوب الحناجر. أطفال تحت الركام تصرخ طلبًا للغوث ولا مجيب. تلعثمت ذاكرة البيوت من قسوة القصف. اليأس يمتد كسحابة سوداء تظلل كل بارقة أمل. احتمالات الرحيل بلا عودة تلوح في الأفق.. ليس هناك مفاتيح لأبواب المدينة.
خرج في المدينة ليمنح الجموع إجابته. ارتدى بزَّته العسكرية كاملة ثم سلَّم المفتاح لولده الذي لم يتجاوز السادسة. لم ينظر ابنه في عينيه؛ كان ليحزن لو رأى دموعه حينذاك. سار مشتملًا على ما استطاع من زاد وعتاد بين صاحبين. بحثوا عن الموت الذي يبحث عنهم. انقضَّ أحدهم على ميركاڤا فلصق قنبلة في أحد جوانبها ثم عاد مسرعًا ودويُّ الانفجار يلاحقه. كمن آخر خلف جدار محاولًا قنص بعض الرؤوس. توجَّهت نحوهم المُسيَّرات واحتشد البغاة بالمدرعات. لم يكن هناك مفرٌّ من تفرقهم. دلف إلى أحد البيوت المهدَّمة، استوقف عينيه مقعد بهيٌّ اللون رغم تهالك المكان. تبعته مُسيَّرة شديدة الدقة. اختبأ خلف جدار ثم صوب بندقيته نحوها. أرسلت نحوه دفعة طلقات صائبة فقطعت يمينه وسقطت البندقية. رأى عصا ملقاة فابتدرها بيسراه. توكأ عليها حتى وصل إلى مقعد غير آمن ليلتقط أنفاسه. ضمَّه المقعد في حنين جارف. أيهذي من الجرح أم أنها ذاكرة المكان؟ خلع حزام بنطاله ليربط به عضده كي يوقف النزيف. اقتربت المُسيَّرة أكثر واستعدت لإطلاق الدفعة التالية. لم يمنح عدستها الانتصار، صوَّب عينيه نحوها في ثبات، ثم ألقى العصا نحوها بآخر ما تبقى لديه من عزم.