

حــب وفـداء
(من ذاكرة الوطن)
إبان الثورة التحريرية المباركة
في كل صيف يجتمع الأحفاد في بيت الجد والجدة، إنهم متعلقون به ويحبون قضاء أيام عطلتهم هناك، حيث يعم الهدوء القرية وحيث الحياة البسيطة بين الحقول الخضراء والبساتين المتنوعة قرب نهر صغير يربط القرى ببعضها.
إنه صيف 2014، كعادتهم الأحفاد الأربعة، أحمد، ويس، وأماني، وهاجر، في بيت جدهم الحاج عبد القادر وزوجنه الحاجة فاطمة؛ وبينما الجميع في البستان نظر أحمد إلى جده ورأى تلك العلامة المميزة في منتصف جبهة جده العريضة، لقد كان يراها دائما لكنه كان ينسى أن يسأل جده عنها.
أحمد: جدي ما هذه العلامة على جبهتك؟
أماني: صحيح، أنا دائما أريد أن أسألك عنها يا جدي، هلا حدثتنا عنها.
ابتسمت الجدة الحاجة فاطمة ونظرت إلى زوجها نظرة ملؤها الحنين والحب، لقد عاد بها الزمن إلى ذكرى عظيمة في حياتها فأحست بفيضان من مشاعر الحب والشوق والاعتزاز والفخر، رآها زوجها وقد شاركها نفس مشاعرها في تلك اللحظة؛ أجل إنها ذكرى حياتهم وقد فجر الأطفال بسؤالهم البريء شلالا من المشاعر في قلب الزوجين الودودين.
الجد: حسنا يا أحبائي، سأحكي لكم اليوم بعد العشاء قصة هذه العلامة.
فرح الأطفال كثيرا فهم يحبون سماع القصص التي يحكيها جدهم، وما إن حل الليل وانتهوا من تناول العشاء حتى اجتمعوا حول جدهم وكلهم شوق لسماع قصته، وما إن بدأ الجد يحكي حتى سكت الجميع مستمعين إلى كل كلمة يقولها بإصغاء شديد.
في شتاء 1958 وإبان الاحتلال الفرنسي، وبعد اندلاع ثورة التحرير المباركة بأربع سنوات، كنت في الثامنة عشر من عمري، وكان والدي الحاج محمد رحمه الله عضوا سريا في جبهة التحرير الوطني، وكذلك كان صديقه المقرب سي عثمان رحمه الله والد جدتكم، كانت ابنته فاطمة صاحبة الأربعة عشر ربيعا آنذاك فتاة ذكية وفطنة جدا ومؤمنة بقضية وطنها والكفاح من أجل تحريره، كما كانت ذات ملامح مميزة يصعب على من رآها أن ينساها بسهولة.
كان أبي وصديقه تاجران متنقلان، مما يساعدهما في المهام الموكلة لهما حيث كانت مهمتهما في تلك الفترة هي توصيل إمدادات السلاح والذخيرة لعناصر جبهة التحرير الوطني، حيث أن طريق القرى والجبال رغم طوله ووعورته إلا أنه أكثرأمانا من الطرق المعبدة التي يكثر فيها جنود الاحتلال من المراكز ونقاط التفتيش.
كانت مهمة أبي وصديقه هذه المرة نقل عشر قطع سلاح وهي بنادق ألمانية الطراز وكيس رصاص، وتوصيلها إلى المجاهدين في ميدان القتال، وكانت هذه الشحنة في غاية الأهمية للمجاهدين من أجل مهمتهم التالية، فالسلاح القليل الذي بين أيديهم لا يكفي لتنفيذها، وقد كانت مهمتهم تحرير ستة مجاهدين محبوسين في ثكنة عسكرية صغيرة، كان جنود الاحتلال الفرنسي يتخذون منها سجنا احتياطيا للثوار قبل ترحيلهم، والوقت الأنسب لتنفيذ خطتهم هو الواحد والثلاثون من شهر ديسمبر أي ليلة رأس السنة حيث ينشغل الجنود ويقللون من دفاعاتهم.
في يوم السادس من ديسمبر 1958، وصل أبي وصديقه سي عثمان القرية ومعهم شحنة السلاح فأسرعا بإخفائه في دهليز سري في منزل سي عثمان، وكان مقراا أن يكملا به المسير في اليوم التالي، لكن ذلك اليوم لم يمض إلا وقريتنا كلها محاصرة بجنود الاحتلال وعرباتهم مدججين بالسلاح، فقد وصلتهم إخبارية عن شحنة سلاح في طريقها إلى الثوار وأنها دخلت قريتنا ؛ بدأ الجنود بتفتيش القرية تفتيشا دقيقا استمر ثلاثى أيام بلياليها لكن دون جدوى، فقرروا فرض حصار على القرية ونصبوا الأكمنة ونقاط التفتيش في كل مكان حتى قرب النهر خارج القرية، لقد كانوا واثقين من دخول السلاح إلى القرية لذلك حاصروها حتى لا يخرج منها.
أصبح خروج السلاح من القرية شبه مستحيل فالداخل والخارج منها يخضع لاستجواب وتفتيش دقيق يدوي دقيق، كما أن طلب العون من أهل القرية أو تجنيدهم لم يكن خيارا متاحا أبدا، فأبي وصديقه لم يرغبا في أن يعرف أحد بعملهم مع جبهة التحرير، كما أنه لا ضمان لأن لا يصل خبر السلاح لجنود الاحتلال ؛شعر أبي وصديقه بضغط رهيب فثقل المهمة أصبح كبيرا جدا ونجاحها منوط بهم انكما أن الوقت يداهمهم فلم يبق إلا واحد وعشرون يوما على ليلة رأس السنة موعد تنفيذ خطة تحرير الثوار المحبوسين، ويجب أن يصل السلاح قبل ذلك إلى المجاهدين، وإذا مر هذا الموعد فسيتم ترحيل المحبوسين قريبا إلى سجن رئيسي محصن وتضيع فرصة تحريرهم.
كان أبي وسي عثمان يدركان تماما حساسية الموقف ودقة الوضع وأهمية الوقت في هذه المهمة، وظلا يجتمعان تارة في منزلنا وتارة في منزل سي عثمان من أجل إيجاد حل لإخراج السلاح من القرية، كنت أحضر اجتماعاتهما دائما فهما لم يخفيا عني أي شيء، وقد كان قلق أبي دافعا لي كي أفكر بطريقة أساعده بها، فقد أحسست بالمسؤولية اتجاه وطننا الحبيب واتجاه المجاهدين الأبطال الذين يضحون بأنفسهم من أجل حريته وكرامته ؛كنت أفكر ليل نهار إلى أن توصلت إلى خطة تمكننا من إخراج السلاح من القرية وقررت أن أعرضها عليهما في اجتماعنا التالي.
الحاج محمد: ما العمل الآن يا سي عثمان فالوقت يمضي ولايزال إيصال السلاح مستحيلا؟
سي عثمان: إيصاله ليس صعبا، فهناك سي العربي وسي عمار في القرية التالية سيستلمانه ويتوليان مهمة إيصاله نفالقرى الأخرى غير محاصرة مثلنا، المشكلة هي إخراجه من هنا.
عبد القادر: أبي، عمي سي عثمان، لقد توصلت إلى خطة لإخراج السلاح من القرية.
الحاج محمد: تكلم يابني ماهي خطتك؟
عبد القادر: النهر؛ سنستعمل النهر لإخراج السلاح.
سي عثمان: لا بني، هل نسيت؟، هناك نقطة تفتيش قرب النهر خارج القرية.
عبد القادر: نعم أعرف، وسيمر السلاح أمامهم دون أن يشعروا.
الحاج محمد: كيف ذلك يا بني؟ اشرح لنا فكرتك.
عبد القادر: سنستغل سير اتجاه مياه النهر ولحسن حظنا هي تسير بالاتجاه المطلوب خارج القرية، سنأخذ لوحا خشبيا ونشده بحبل في المنتصف ثم نعلق قطعة السلاح بالحبل، وعندما نضعه في النهر سيطفو اللوح الخشبي ويختفي السلاح في الماء أسفله، وهكذا سيدفعه النهر خارج القرية، وهناك سننتظره.
الحاج محمد: لكنهم قد يلاحظو الألواح الخشبية، كما أن إبقاء السلاح في الماء مدة طويلة قد يتلفه.
عبد القادر: صحيح با أبي، لذلك سنلف قطع السلاح بالأكياس حتى نحميها من الماء، كما أننا سنستخدم فروع الأشجار بدل الألواح، ومنظر فروع الأشجار في النهر لن يلفت الانتباه، وسنترك فاصلا زمنيا بين كل دفعة وأخرى.
سي عثمان: هل أنت واثق من نجاح خطنك يا بني؟
عبد القادر: أجل، إن شاء الله ستنجح، لقد جربتها ليلة أمس ونجحت وقد ساعدتني ابنتك فاطمة في ذلك.
الحاج محمد: وماذا عن الذخيرة؟ لا يمكننا أن نغامر بها مدة طويلة تحت الماء.
هنا وبينما كنا نفكر في طريقة لتهريب الذخيرة دون إتلافها، إذ دخلت علينا فاطمة ابنة سي عثمان، وقالت: أنا عندي طريقة لتهريب كيس الرصاص.
كانت خطنها تقتضي أن تربط الكيس حول بطنها وأخرج أنا معها متظاهرين أننا رجل وزوجته يقصدان مستشفى المدينة ؛ وافق الجميع على الخطة، ثم وزعنا أدوار المهمة بيننا على أن يبدأ التنفيذ مع الحادية عشرة ليلا من يوم غد، وأخرج أنا وفاطمة بكيس الذخيرة من فجر اليوم نفسه.
في صباح اليوم التالي خرج سي عثمان من القرية ليلتحق بسي عمار وسي العربي ويذهبوا جميعا للمكان المتفق عليه لأحذ قطع السلاح عندما تصل، بينما بقيت أنا وأبي وفاطمة في القرية من أجل تجهيز السلاح وإرساله في الوقت المحدد، وما إن حل الظلام على القرية بدأنا في لف قطع السلاح بالأكياس وربطها بالحبال، ثم أخذناه على مرتين لمكان قرب النهر كنا قد جهزنا فيه فروع الأشجار مسبقا، وعندما جاء الموعد المحدد بدأنا بإرسال السلاح عبر النهر قطعتين في كل مرة، كان هذا اقتراح سي عثمان أن نرسل قطعتين في كل مرة من أجل كسب الوقت.
كنا نرسل قطع السلاح عبر النهر تاركين فاصلا زمنيا بمقدار ساعة بين كل دفعة وأخرى من الدفعات الخمس، ومع اقتراب الساعة الثالثة صباحا عندما بقيت دفعة واحدة لإرسالها نطلب أبي مني ان أعود أنا وفاطمة إلى منزلهم ونبدأ بتجهيز حطة تهريب كيس الرصاص ؛عدت أنا وفاطمة إلى منزلهم وشرعنا في تنفيذ الخطة، ربطت فاطمة كيس الرصاص حول بطنها وغطته بالملابس حتى بدت كامرأة حامل، وبعد قليل عاد أبي إلى المنزل وقد أنهى إرسال السلاح ؛وعندما حان وقت تحركنا، قال لنا أبي: إنه الوقت، توكلا على الله وانطلقا هيا.
خرجت أنا وفاطمة من المنزل باتجاه مخرج القرية، كنا نسير ببطئ حتى تنطلي الخدعة على جنود الاحتلال، ولما اقتربنا من المخرج كان هناك نقطة تفتيش، لم نلحظ جنودا كثرا هناك، اقتربنا ببطئ منهم ثم أوقفنا أحد الجنود وقام بتفتيشي ثم سألنا:إلى أين تذهبان؟، كان قلبي يخفق بشدة، لم أكن أخشى على حياتي أبدا بل كل خوفي من أن تفشل مهمتنا ما يعني إحباط مخطط تحرير المجاهدين من الأسر ؛أجبت ذلك الجندي أننا نقصد المستشفى فزوجتي قد تلد اليوم أو غدا والمشي أفضل لها، بقي ذلك الجندي يحدق بفاطمة، وكنت أدعوا الله أن لا يكتشف أمرنا، وبعد لحظات قال: حسنا انصرفا، شعرت براحة عارمة في صدري، وبدأنا المشي ببطئ مبتعدين عن القرية، كان قلبي وجسدي يريدان الركض بسرعة، لكنني كنت أحبس تلك الرغبة حتى لا يفتضح أمرنا للعدو.
كنا نسير ولا نلتفت خلفنا، كانت غايتنا أن نصل إلى هدفنا بأسرع وقت ممكن، وما هي إلا مدة قصيرة حتى سمعنا صوتا خلفنا ينادي: هاي أنتما توقفا ؛نظرت خلفي وكان ذلك الجندي الذي رأيناه في نقطة التفتيش قد لحق بنا ؛تسارعت ضربات قلبي فقد أدركت أن هناك خطبا ما، وما إن وصل ذلك الجندي إلينا حتى قال لفاطمة: تذكرتك، ألست ابنة ذلك التاجر المدعو عثمان، لقد فتشت منزلكم قبل أيام وكنت هناك ولم تكوني حاملا، هيا أخبريني ماذا تخفين تحت ملابسك؟
هنا قاطعت الجدة الحاجة فاطمة زوجها قائلة: عزيزي دعني أكمل القصة عنك، فأنا احب هذا الجزء منها، ثم شرعت الجدة في إكمال القصة للأطفال.
عندما اقترب الجندي مني كي يفتش تحت ملابسي غضب عبد القادر ونهره بشدة، فاستشاط الجندي بالغضب وحمل سلاحه وضرب عبد القادر بأسفل سلاحه على جبهته تاركا له هذه العلامة التي ترونها الآن، سقط عبد القادر على الأرض وجبينه تنزف واقترب الجندي مني، وعندما هم بوضع يده على مكان كيس الرصاص، انقض عليه عبد القادر من الخلف وخنقه بقطعة شاش وهو يصرخ: لن أسمح لك بلمس شعرة منها وأنا على قيد الحياة، ولم يفلته حتى أرداه جثة هامدة على الأرض.
لم يكن لدينا متسع من الوقت حتى للتفكير، فقد خشينا أن يلحق بنا جنود آخرون ـفأخذنا جثة ذلك الجندي وأخفيناها بعيدا عن الطريق بعد أن أخذنا سلاحه وزيه العسكري، ثم أكملنا طريقنا مسرعين باتجاه المكان المحدد الذي سيكون فيه أبي وسي عمار وسي العربي، وعندما وصلنا القرية التالية كان الجميع في منزل سي عمار حيث خبؤوا السلاح هناك، أعطيناهم كيس الرصاص والملابس العسكرية والسلاح الذين أخذناهما من ذلك الجندي، وقد شعر أبي بالقلق والخوف علينا بعد أن سمع بما حدث معنا لكنه كان فخورا جدا بما فعله عبد القادر، وبعد قليل غادرنا منزل سي عمار وقد حملناه سلامنا وأمانينا الحارة للمجاهدين الأبطال بالنصر والسداد فيما هم مقبلون عليه.
بعد حوالي أسبوعين ومع دخول العام الجديد وصلنا نبأ تحرير المجاهدين من أسر الاحتلال الفرنسي بعد معركة ملحمية خاضها جنودنا البواسل لقنوا فيها العدو الغاشم درسا لن ينساه، فرحنا كثيرا بهذا الخبر واكتملت فرحتي عندما جاء عبد القادر إلى أبي طالبا يدي للزواج، وبعد زواجنا بقليل انضم عبد القادر إلى صفوف جيش التحرير الوطني ولم يتركه حتى استعدنا حرية وطننا وكرامته، ونالت جزائرنا الحبيبة استقلالها وسيادتها.
بقي الأطفال الأربعة صامتين حتى بعد أن أنهت الجدة كلامها إلى أن قطع أحمد هذا الصمت قائلا:
أحمد: جدي أنت شجاع جدا، أنت بطل حقيقي.
الجد: لا يا بني نحن لم نفعل ما فعلناه حتى يقال لنا أبطالا، بل فعلناه في سبيل الله وفي سبيل الوطن والأجيال القادمة ؛ أنتم اليوم أبطال الوطن إذا نهضتم به وساعدتم على ازدهاره وبناءه، لكن هل تعرفون يا أحبائي من كان البطل الحقيقي؟ إنها جدتكم، فقد حملت كيس الرصاص المربوط على بطنها ووزنه أكثر من عشرة كيلو غرام، وسارت به مسافة خمسة كيلومتردون توقف ودون أن تتذمر أو تشكو.
الجدة:عزيزي كما قلت أنت كان ذلك في سبيل الله والوطن، وحتى أرواحنا ترخص في سبيله.
الجد: صحيح أحسنت يا عزيزتي، وأنتم يا أحفادي الأعزاء، ادرسوا جيدا واعملوا بجد وإخلاص حتى ترفعوا علم هذا الوطن عاليا كما رفعناه نحن بتضحياتنا في ساحات القتال نالوطن مازال يحتاجكم كما تحتاجونه فلا تبخلوا عليه بشيء ولا تخيبوا أمله وضافروا جهودكم وتعاونوا فيما بينكم حتى يصبح وطنكم خير الأوطان وأجملها.
والآن حان وقت نومكم يا أحبائي تصبحون على خير.