الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم محمد عبد العال المريسي

جُمجُمَةُ سُلَيْمَانَ

كانتِ الجَماهِيرُ الغاضِبَةُ تَملَأُ المِيدَانَ، وتَحلُمُ أنَّ نِداءَاتِهَا المَشْرُوعَةَ تَصْعَدُ إلى السَّمَاءِ أَمَلًا في تَحْقِيقِ الأُمْنِيَاتِ.

كُنتُ وَاحِدًا مِن هَؤُلَاءِ المَرْفُوعِينَ عَلَى الأَكْتَافِ، وَكَانَتْ حَنَاجِرُنَا المُمتَلِئَةُ بِالنِّدَاءَاتِ تَهُزُّ الفَرَاغَ الوُجُودِيَّ.

كُلُّ شَيءٍ تَوَقَّفَ في المِيدَانِ، الشُّرْطَةُ تَوَقَّفَتْ عَن إِطْلَاقِ النَّارِ، قَنَابِلُ الدُّخَانِ، وَطَلَقَاتُ الرَّصَاصِ... كَانَتْ صُدُورُنَا مَفْتُوحَةً لِتَلَقِّي الرَّصَاصِ.

لَقَدْ تَمَّ دَهْسُ الخَوْفِ بِأَحْذِيَةِ الطَّيِّبِينَ الثَّائِرِينَ.

في مَدْخَلِ شَارِعِ عِمَادِ الدِّينِ مِنِ اتِّجَاهِ رَمْسِيس، أَشَارَ أَحَدُهُم بِصَوْتٍ عَالٍ:

إلى التَّحرِير! إلى التَّحرِير!

انْدَفَعَتِ الجَمَاهِيرُ في شَارِعِ عِمَادِ الدِّينِ، كَانَتِ الشرفات المُطِلَّةُ عَلَى الشَّارِعِ مِنَ النَّاحِيَتَيْنِ مُمتَلِئَةً بِالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي يُزَغْرِدْنَ بِحُبٍّ وَقُوَّةٍ، وَكِبَارِ السِّنِّ يُصَفِّقُونَ بِأَيْدِيهِم.

قَالَتْ لِي صَدِيقَتِي: أَنتَ مَرِيضٌ بِالضَّغْطِ وَالإِنْفِعَالِ الزَّائِدِ، لَيْسَ في مَصْلَحَتِكَ، أَعْطِتنِي زُجَاجَةَ المِيَاهِ الَّتِي تَحْتَفِظُ بِهَا.

فَشَرِبْتُ مِنْهَا، وَأَعْطَيْتُهَا البَاقِي.

كُنتُ أَشْعُرُ أَنَّنَا نَسِيرُ في حُلْمٍ جماعي، الجَمِيعُ يَحْمِلُ فَرَحًا دَاخِلِيًّا وَأَلَمًا خَفِيًّا دَاسَتْهُ الأَقْدَامُ.

كُنَّا في حَالَةِ عُرْسٍ ثَوْرِيٍّ، لَقَدْ تَمَّ فَضْحُ اللُّصُوصِ وَالخَوَنَةِ وَالمُرْتَشِينَ، وَسَارَقي الأَحْلَامُ.

الجَمِيعُ في حَالَةِ حُلْمٍ وَيَقَظَةٍ إِنسَانِيَّةٍ، تَوَقَّفَتْ حَرَكَةُ سَيْرِ العَرَبَاتِ، كَانَ الزِّحَامُ شَدِيدًا، وَبِالرَّغْمِ مِنْ بُرُودَةِ يَنَايِرَ، إِلَّا أَنَّ دِفْءَ المَشَاعِرِ ضَخَّ تِيَارًا مِنَ الدِّفْءِ الثَّوْرِيِّ الَّذِي أَيْقَظَ فِينَا كُلَّ الأَحْلَامِ.

عِندَ تَقَاطُعِ شَارِعِ عِمَادِ الدِّينِ مَعَ شَارِعِ سُلَيْمَانَ الحَلَبِيِّ، تَوَقَّفْتُ لِأَسْتَرِيحَ قَلِيلًا،

مَدَّتْ يَدَهَا إِلَى وَجْهِي لِتَمْسَحَ عَرَقِي، كُنتُ أَشْعُرُ بِدُوخَةٍ خَفِيفَةٍ، أَخَذَتْنِي مِنْ يَدِي وَأَجْلَسَتْنِي عَلَى كُرْسِيٍّ بِالمَقْهَى المَفْتُوحِ عَلَى النَّاصِيَةِ.

نَظَرْتُ أَمَامِي، سَطَعَتْ فِي عَيْنَيَّ لَافِتَةٌ زَرْقَاءُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: "شَارِعُ سُلَيْمَانَ الحَلَبِيِّ".

أَخَذْتُ أُكَرِّرُ العِبَارَةَ بِصَوْتٍ هَادِئٍ:

"شَارِعُ سُلَيْمَانَ الحَلَبِيِّ... شَارِعُ سُلَيْمَانَ الحَلَبِيِّ..."،
وَأَطْلَقْتُ زَفِيرًا يَحْمِلُ أَلَمًا وَغَضَبًا.
قُلْتُ لَهَا: هَلْ تَعْرِفِينَ مَن هُوَ سُلَيْمَانُ الحَلَبِيُّ؟
قَالَتْ: لَا.
قُلْتُ لَهَا: كُلُّ وَاحِدٍ مِن هَؤُلَاءِ بَدَاخِلِهِ سُلَيْمَانُ الحَلَبِيُّ.
قُلْتُ لَهَا: هَلْ تَعْرِفِينَ مَنْ قَتَلَ "جَان كْلِيبِر"؟
قَالَتْ: لَا.
قُلْتُ: هُوَ هَذَا الشَّابُّ الَّذِي جَاءَ مِن رِيفِ حَلَبَ لِيَدْرُسَ فِي الأَزْهَرِ، وَرَأَى المَذَابِحَ الَّتِي قَامَ بِهَا الفَرَنْسِيُّونَ ضِدَّ الشَّعْبِ المِصْرِيِّ عَقِبَ ثَوْرَةِ القَاهِرَةِ الثَّانِيَةِ.

وَعِنْدَ عَوْدَتِهِ مِن مَوْطِنِهِ حَلَبَ، مَرَّ عَلَى غَزَّةَ، وَاشْتَرَى خِنْجَرًا خَبَّأَهُ فِي صَدْرِهِ، وَعِنْدَ وُصُولِهِ إِلَى القَاهِرَةِ، انْضَمَّ لِلْعُمَّالِ الَّذِينَ يُرَمِّمُونَ قَصْرَ مُحَمَّدٍ بَكِ الأَلْفِي، حَيْثُ تَمَّ حَرْقُهُ مِن قِبَلِ الثُّوَّارِ، حيث كان مقرا للفَرَنْسِيُّين.

قَالَتْ بِاهْتِمَامٍ، وَالأَصْوَاتُ الهَادِرَةُ تَمْلَأُ المَكَانَ:

كَيْفَ قَتَلَهُ؟

قُلْتُ لَهَا: لَقَدِ اخْتَبَأَ لَهُ، وَعِنْدَمَا اقْتَرَبَ مِنْهُ، عَاجَلَهُ بِطَعْنَةٍ نَجْلَاءَ فِي قَلْبِهِ، فَوَقَعَ عَلَى الأَرْضِ غَارِقًا فِي دَمِهِ وَجَرَائِمِهِ.
قَالَتْ: هَلْ قَبَضُوا عَلَى سُلَيْمَان؟

قُلْتُ: نَعَم، قَبَضُوا عَلَيْهِ وَعَلَى زُمَلَائِهِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ مَعَهُ، وَكَانُوا جَمِيعًا مِنْ غَزَّةَ: مُحَمَّدٌ الغَزِّي، عَبْدُ اللهِ الغَزِّي، عَبْدُ القَادِرِ، وَأَحْمَدُ الوَالِي.

لَقَدْ قَطَعُوا رُؤُوسَ الثَّلَاثَةِ، وَحَرَقُوا جَثَامِينَهُم.

قَالَتْ: وَمَاذَا فَعَلُوا مَعَ سُلَيْمَان؟

قُلْتُ لَهَا: أَحْرَقُوا يَدَهُ اليُمْنَى الَّتِي طَعَنَتْ "جَان كْلِيبِر"، ثُمَّ وَضَعُوهُ عَلَى الخَازُوقِ لِمُدَّةِ سَاعَاتٍ، ثُمَّ تَرَكُوا جُثَّتَهُ لِيَأْكُلَهَا الطَّيْرُ.
وَالأَنَ... يَحْتَفِظُونَ بِجُمْجُمَتِهِ فِي "مُتْحَفِ الإِنْسَانِ"،
فِيمَا صَنَعُوا تِمْثَالًا لِلْقَاتِلِ "كْلِيبِر" فِي "سْتْرَاسْبُورْج"،
وَتَمَّ تَخْزِينُ هَيْكَلِهِ العَظْمِيِّ فِي حَدِيقَةِ النَّبَاتَاتِ!
هذِهِ هِيَ فَرَنْسَا... قاتلة الثُّوَّارُ وَالأَحْرَارُ!
نَظَرْتُ إِلَيْهَا وَالدُّمُوعُ تَمْلَأُ عَيْنَيْهَا،

قَالَتْ لِي:

أَعْتَذِرُ لَكَ عَنْ عَدَمِ قِرَاءَتِي لِلتَّارِيخِ، وَلَكِنَّنِي بَعْدَ حَدِيثِكَ أَشْعُرُ أَنَّ شَيْئًا مَا فِي دَاخِلِي يَتَحَرَّكُ.
إِنَّ تَسْمِيَةَ الشَّارِعِ بِاسْمِهِ لَا تَكْفِي، إِنَّهُ يَسْتَحِقُّ تِمْثَالًا حَقِيقِيًّا.

قُلْتُ لَهَا: الأَبْطَالُ لَا يَبْحَثُونَ عَنِ التَّمَاثِيلِ،
إِنَّهُمْ يُصْنَعُونَ فِي أَعْمَاقِنَا تَمَاثِيلَ لَهُمْ.

قَالَتْ: هَلْ سَتَجْلِسُ كَثِيرًا؟
كَانَتِ الجَمَاهِيرُ الغَاضِبَةُ قَدْ مَلَأَتْ شَارِعَ فُؤَادَ، وَكَانَ لِزَامًا عَلَيَّ أَنْ أَسْتَمِرَّ فِي السَّيْرِ.

قَالَتْ وَعَيْنَاهَا مُمتَلِئَتَانِ بِدُمُوعٍ خَفِيفَةٍ:
هَلْ سَتَسْتَمِرُّ فِي السَّيْرِ إِلَى المِيدَانِ؟

قُلْتُ لَهَا: كُلُّ أَمَلِي أَنْ نَصِلَ إِلَى المِيدَانِ، لِكَيْ نَسْتَعِيدَ فِي ذَاكِرَتِنَا جُمْجُمَةَ سُلَيْمَانَ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى