المرأة ذات الفستان الوردي
بقلم: جينا بيريولت
أخذتني أمي معها إلى تلك الحفلة لأن عيد ميلادي الثالث عشر كان بعدها بيومٍ واحد فقط، وقالت إننا نستطيع تخيلها كحفلة لي، حفلة عيد ميلاد لا يعرفها إلا نحن الاثنتان. ابتعدتُ عن أمي والأصدقاء الذين يحتضنونها، وخرجتُ وحدي إلى الغرف التي كان فيها الغرباء. كلما رفعتُ بصري، التقيتُ بنظرة، ولم يكلمني أحد مازحًا كما يفعلون مع طفل، وعندما اقترب الرجال مني، عاملوني بنوع من المعرفة، كما لو كنتُ غارقة في التجارب التي تخيلتها فحسب.
أستطيع أن أتخيل نفسي في ذاكرتي كما لو كنت أراقب فتاة أخرى من زاوية غرفة: كيف بدت في ثوب أخضر باهت يلتصق بالثديين الصغيرين والوركين المستديرين، لم يعد قماشًا مجعدًا أو مطويًا، ولا قماشًا مستقلاً بذاته، بل كان من النوع الذي يطاوع الجسد الفتي الذي كان قد بدأ للتو يعلن عن نفسه ، أو رغبته، أو إرادته. وأستطيع أن أرى كيف التفت لتُغوي بنظرتها الجانبية ، شعرها الأشقر قصيرًا حتى كتفيها، بلا ضفائر، ولا مشابك شعر، ويمكنني أن أسمع جزءًا من صوتها، صوتًا يتغير كصوت صبي، لكن صوتها يتغير بدافع الترقب، ليس مرتفعًا ومترددًا كصوت الطفل.
بقيتُ أنا وأمي منفصلتين. أتذكر أنني رأيتها وسط مجموعة الضيوف في غرفة أخرى بعيدة، وأتذكر أنني رغبت في أن أكون معها، لأنها، كما في طفولتي، كانت تحميني من الأشخاص الذين يربكونني، وأتذكر أيضًا أنني كنت سعيدة بتلك المسافة بيننا. وبينما تُصدر أساورها رنينًا على معصميها، كانت تُلقي التحية على المضيفة وعلى النساء وتثني على ذكاء الرجال وحكمتهم، فتُسحر الجميع.
وصل والدي متأخرًا إلى الحفلة. كنا نتشابك الأيدي ونتجول في المكان، نتناول المقبلات ونشرب ما يُقدم لنا في أكواب كثيرة ترن، وعندما شبعنا، ليس فقط من الطعام والشراب، بل من الأصوات الصاخبة ونوبات الضحك، وجدنا غرفةً خاليةً من أي أحد. جلسنا على أريكة عتيقة، ظننتُ أنها ثمينة جدًا لدرجة لا ينبغي الجلوس عليها، أريكة مخملية زرقاء داكنة، منحنية كالهلال، لكننا جلسنا هناك، ربتنا على بطوننا، وتنهدت تنهيدات طويلة من فرط المتعة. دخلت الشابة بخجل، كما لو كانت تطلب معروفًا من أشخاص لم يروها من قبل. بدت غير مستقرة على قدميها، وخمنت أن ذلك بسبب المشروبات التي تناولتها. جلست على الطرف الآخر من الأريكة، وعلى الجانب الآخر من والدي، ثم عرفت أنها لحقت بنا.
قال لها: "هذه ماري، ابنتي"
لكن كلامه كان بمثابة تحذير لا تعريف، ولم يذكر لي اسمها.
سألها: "كيف حالكِ؟"
فقالت: "أنت تعرف كيف حالي."
عند ذلك التفت والدي إليّ قائلاً، وكان في كلامه نبرة الأمر لا الرجاء: "ماري، هل ستذهبين؟ أين أمك؟"
لكنه لم يكن شخصيةً قويةً لتأمر. كان في حلقه خشونةٌ كسعالٍ مُكبوت، وعيناه مُرتعشتان. إن فقد سلطة الأب في تلك اللحظة، فقد اكتسب سلطةً أخرى، وهي سلطة الرجل الذي اكتسب خبرةً تفوق معرفة عائلته. ما كان يعرفه عن حياته ولم تكن عائلته تعرفه بدا لي وكأنه يمنحني تجاربي الخاصة التي لا تُحكى. كان الأمر كما لو أنه منحني حريةً مطلقةً في التعامل مع العالم.
لم أستطع النهوض وتركهما. ظننتُ أنني قد أفعل، لكنني لم أستطع.
لم تنتظرني حتى أرحل. قالت له بصوت خافت، ونظرتها الجانبية على يدها وهي تمسح مخمل الأريكة:
"أريد أن أسألك إن كنتَ قد أتيتَ لرؤيتي يومًا.ابتعدتُ حتى ترى عندما تأتي أنني لم أكن أنتظرك، لكن بعد أن انتقلتُ تمنيت لو بقيتُ في نفس المكان وواصلتُ الانتظار."
لم تعد تلك الشابة الخائفة التي تخشى والدي. بل كانت امرأة فاتنة، بفخذين كبيرين تحت فستانها الحريري الوردي. وعندما أدرك والدي أنني رأيتها كما رآها في الماضي، ولا بد أنه لا يزال يراها في الحاضر، نهض وابتعد عنا.
جلستُ معها لبضع دقائق، دون أن أنطق بكلمة، كما لو كنت مع صديقة أفصحت لي عن سرّها. كانت تداعب الأريكة، وتتحرك يدها في دوائر صغيرة نحو المكان الفارغ الذي كان والدي يجلس فيه.
عندما تركتها، لم أتبع والدي. أردتُ أن أجد أمي، بدلًا من ذلك، وأن أضمّها بين ذراعي طلبًا للمغفرة. شعرتُ أنني لن أستطيع النظر في عيني أمي لفترة طويلة، ولم يكن ذلك لأنني أعلم أنها تعرضت للخيانة ولم أستطع إخبارها. فبعد اكتشافي لأبي وتلك المرأة، لم أكن قد فكّرتُ فيها.
كان الضيوف يتدفّقون جماعاتٍ نحو البيانو الكبير، حيث كان الفنان يجلس ليعزف. انضممتُ إليهم، فإذا بي أُدفَع إلى الأمام قريبًا منه، شابٌّ بشعرٍ فضيّ ناعم وابتسامةٍ تكشف عن أسنانٍ صغيرة. سمعتُ أنه ابن عمّ المضيفة، مغنيٌ ذاع صيته في النوادي الليلية والحفلات الكبيرة. كانت ربطة عنقه السوداء تتمايل وهو يتبادل أطراف الحديث مع الضيوف المتجمّعين حول البيانو.
كانت الأغنية التي غناها - بصوته المتقلب كوجهه، يرتجف في لحظة، ثم يهدأ في أخرى - تدور حول ازدياد عجز العشاق عن التعبير عن رغباتهم. كان هناك خلل ما في حياة العشاق في نهاية كل مقطع، ثم كان يدق على المفاتيح ليؤكد على مآسيهم العبثية.
كانوا جميعًا متلاصقين، ثلاثة منهم في حلقة حول البيانو، وكانوا جميعًا يضحكون على كل هزيمة للحبيبين. كانت عيونهم مغمضة بشدة من شدة الضحك، أو تسبح جانبًا، وكان أحدهم يضع سيجارته بين شفتيه ليجذب الدخان جفنيه. كانوا يُشيحون بنظرهم عن أعين الآخرين.
كانت أمي بين الحشد. رأيتها على البيانو، وجهها محصور بين وجهين آخرين. كانت تُحرك عينيها وتتطقطق بلسانها وتضحك، كغيرها ممن حولها، شعرتُ بفيض من الحب والاهتمام بها. كانت تحظى بدعمٍ كبير ، ولكن مهما اجتمع الناس على ذلك البيانو وفي كل مكانٍ آخر للتقليل من شأن العشاق، كنتُ أعلم أن كل المحاولات ستنتهي بالفشل.
الكاتبة : وُلدت جينا بيريولت/Gina Berriault في كاليفورنيا لأبوين مهاجرين يهود من روسيا. خلال مسيرتها الأدبية الطويلة، ألّفت أربع روايات وثلاث مجموعات قصصية، ونالت جوائز مرموقة، منها زمالة جوجنهايم، وجائزة بوشكارت، والعديد من جوائز أو. هنري. وحظيت بإعجاب واسع كواحدة من أعظم كاتبات القصة القصيرة الأمريكيات، وحققت نجاحًا تجاريًا في أواخر حياتها مع مجموعة "نساء في أسرّتهنّ" التي حازت على جائزة بن/فولكنر، وجائزة دائرة نقاد الكتاب الوطنية، وجائزة مؤسسة ريا. ومن بين هذه المجموعة، قصة "المرأة ذات الفستان الوردي". توفيت بيريولت في منزلها عام 1999.
*(نقلا عن جريدة أخبار الأدب المصرية بتاريخ 30 نوفمبر 2025)
