

الجائزة
دخل بيته ببطء، توجه نحو غرفة الجلوس بصعوبة وهو يلهث. اقترب من المكتبة ووضع الدرع الذهبي الذي يحمله على الرف المجاور للتلفاز في منتصفها بالقرب من أشباهه المصفوفين على الأرفف، جلس على الأريكة المقابلة يلتقط أنفاسه وهو يتأملهم. دروع صغيرة ذهبية وفضية وبرونزية تتلاصق مع مجسمات لأقلام دقيقة بشكل فني مبدع، جوائز تحكي تدرج تفوقه الأدبي في تلك الأصقاع القصية، نجاح بارز في بلدٍ بارد لم يكن يتخيل أو يطمح لزيارته خاصةً في وقت حضوره لها. أسند رأسه على الجزء العلوي من الأريكة بإجهاد وأغمض عينيه، استعاد بخياله صوت التصفيق الذي سمعه بعد النطق باسمه في الحفل، تداخل صوت التصفيق مع صوت مراوح الطائرات والانفجارات والصراخ فلم ينقذه منهم سوى ارتفاع طنين الرزنامة الإلكترونية بجواره، ليفزع ويفتح عينيه وينظر لها. كانت الساعة تدق الثانية عشر في منتصف الليل تعلن انتهاء اليوم وبداية يومٍ جديدٍ يستهل عاماً جديداً، ترتبت الأرقام فوق بعضها: الساعة في الأعلى، واليوم والشهر تحتها، وفي الأسفل العام 2035.
يقوم في تثاقل ويسير نحو باب غرفة مغلق ويطرق عليه لتفتح له بعد ثوان الممرضة الشابة الشقراء "أوريت" بابتسامة مشرقة، تهنئه بالعام الجديد بانجليزيتها الضعيفة. يعتذر لها عن التأخر فتطمئنه بأنها غير منزعجة وأنها كانت تتوقع ذلك، وتخبره إن ذلك أقل ما يمكنها التعويض به عن أخطاء أبائها وأجدادها، وأنهت كلاها بمباركتها له فوزه الجديد، وتمنيها له دوام النجاح وعامًا جديدًا سعيدًا عليهما، ثم تركته وغادرت المنزل في عجل قبل أن يرد على كلماتها. ينظر بداخل الغرفة ليرى شابًا صغيرًا نائمًا على فراشٍ ضيق يرتدي منامةً صوفيةً ويتلفح بالأغطيةِ الثقيلة التي تخفي تحتها جسده ذا الجلد المشوه الذي عجز عن إخفاءه كاملاً لاستحالة تغطية وجهه طوال الوقت. جلس في هدوء على المقعد المجاور للفراش والذي تركته الممرضة منذ قليل لينزع ببطء حذائه وساقه اليمنى الصناعية فيحرر ركبته منها، ثم بصعوبةٍ يكرر الأمر مع ذراعه اليسرى ويتركهما بجوار المقعد ويغمض عينيه ثانيةً، وفي ثوانٍ بدأت تتسلل إليه ذكريات ماضيه، الأحداث التي مر بها، والأشخاص الذين صادفهم في رحلته الطويلة.
تسلَّتْ أمام عينيه صور لأحبائه الذين فقدهم، لحظاته السعيدة التي قضاها معهم في أوقات الهدوء. كانت الذكريات تتلاشى وتعود بسرعة، مثل أمواج البحر تلامس شاطئًا، وكانت كل واحدة منها تخلق موجة من المشاعر بداخله، ومع كل نفس يأخذه يشعر بأنه يغرق أكثر في بحر من الأفكار والمشاعر المتضاربة، وسط صخب العالم الخارجي، وفي هذه اللحظة شعر مازن بالحاجة الملحة للتعبير عن ما يجول في خاطره، ولحسن حظه كمن استجابت رغبة قلبه يسمع صوتًا خفيضًا بجواره فيستقيم له.
– مبارك لك يا مازن.
– أما زلت مستيقظًا يا سيف؟
– كنا نشاهد تكريمك.
– لولاك لما كتبت شيئًا.
– هذا سعيهم فلا تسمح به، أنت صوتنا فلا تسكته.
تثائب مازن واقترب من الفراش ونظر لسيف في حزن.
– وما جدوى الصراخ بين الصم؟
– وما جدوى حياتي وأنا هكذا؟ قل لي صدقًا، لماذا لم تتركني وتريحني؟
ينظر سيف للجهة الآخري ليخفي دمعة عن صديقه فيضع مازن كفه علي يد سيف المغطاه بجواره.
– ربما أنت ابن صديق أخي الكبير، ولكنك الآن آخر ما تبقى لي، فكيف أتركك؟
تحدث سيف بصوت أجش ليخفي اهتزازه الداخلي.
– هل من أخبار جديدة من المشفى؟
– ما زالوا في حالة بحث عن ترياقٍ يشفي ويخفي آثار الفسفور الأبيض.
– هذا دورهم بعد ما حدث، ألم يكن كل ذلك بدعمهم وموافقتهم، دورهم كذلك الآن رعايتنا صحيًا حتى نشفى مما فعلوا إن رغبوا في صَفحٍ وتبييض وجوههم السوداء الملطخة بدمائنا.
– صدقت.
ينظر سيف لمازن بعبوس ويخرج يده المشوهه بشدة والمبتور منها أصبعين من تحت الغطاء ليمسك بيد مازن.
– وأنت أيضًا عليك أن تحكي قصصنا وكيف تحمَّلنا وقاومنا وبقينا رغم كل ما حدث بنا.
– أحكي من هنا؟ أتظن أننا سنظل أكثر من ذلك كثيرًا؟
– أنا مثلك أهفو للعودة، ولو للا أحد من أهلي رحمهم الله جميعاً. ولكن قل لي كيف سنعود وهذه أحوالنا؟! علينا يا مازن أن نتماسك صحيًا لنعود لخان يونس ونعيد الحياة معهم.
– ولكن...
– مازن، تذكر أنهم لا يعيلوننا هنا، إخواننا هم من يفعلون وينتظرون شفاءنا وهم فخورون بك."
– الأعوام تجري ونحن في مكاننا."
– لا، نحن الآن أفضل مما كنا عليه حين التقطونا من بين أهلنا الشهداء تحت الركام، نحن أيضاً نقاوم بشكلٍ مختلف فلا تندم يا صديقي، إننا هنا الآن وأحياء لهدف و- مهما حدث - لا يجب أن ننساه.
كانت لكلمات سيف كبير الأثر على روح مازن، فبدأ يشعر بأنه يستعيد قوته وحيويته، ويجد في داخله الشجاعة والعزيمة لمواجهة العالم بكل ما فيه من تحدياتٍ وصعوبات.