

الإخوة أيضاً يرحلون
عندما أُغلق باب الزنزانة على ياسين لم يفكر في أحد سوى أخته سارة، وكلماتها التي بقيت تَرن في أذنيه كجرس مستمر الدقات، وتذكر أن وعده لها قد ذهب أدراج الرياح بأن يحافظ على ترابط الأسرة في مواجهة مصاعب الحياة بعد وفاة الأم وزواج الأب من امرأة أخرى.
شعر بألم حاد في جانبه الأيمن، سرح قليلاً في حال سارة التي لم تعد في صحة جيدة وبات جسدها الهزيل حساساً لأي مرض مستجد، بعد أن أضحت تعيش بكُلية واحدة فيما تقبع الأخرى بين ضلوعه. في ذاك المستشفى كانت روح ياسين معلقة بين الموت والحياة حين توقفت الكُلية الوحيدة التي ولد بها، وكانت سارة تتمسح على الأبواب تنتظر نتيجة تحليل تطابق الأنسجة لزراعة الكُلى والذي من خلاله يتم تحديد ما إذا كان جسد ياسين سيتقبل الكُلية التي ستمنحها إياه.
يدرك ياسين أنه كأسير في سجون الاحتلال قد أصبح مصيره في حكم المجهول، وأنه ربما رحل عنهم بنفس الطريقة التي رحلت بها أمهم؛ يسمع كثيراً عن الموت في السجون، ويسمع عنه من الذين فقدوا أحبابهم دون أن يودعوهم، غير أن وعده لسارة هو ما يؤرق ليلته الأولى في هذه الزنزانة البغيضة.
اقترب أكثر من نافذة علوية في غاية العتمة، لم يسمع شيئاً سوى نباح كلاب وضوضاء صراصير، ثم نظر إلى الجدران الصلبة، تحسس برودتها بيديه وقرب أذنه اليسرى منها، أنصت بحسرة إلى كلمات مبعثرة من زمن آخر؛ يوم كان طفلاً في حضن والدته، استحضر أغنية شعبية يتغنى بها النابلسيون، رددها بين شفتيه "انزلت عالسوق نازل... لقيت هالتفاحة... حمرا لفاحة... حلفت ماباكلها... لا يجي خي وبي" كانت أمه تترنم بها كلما قامت بتحميمه هو وأخوه التوأم سلمان. كان ألم فقدان الأم منذ سنوات قليلة بالغ الأثر على كل فرد من العائلة، صوتها بالنسبة له نغمة جميلة في سيمفونية الحياة الظالمة داخل أسوار الاحتلال المقيت، بفقدها فقد ياسين السند الأقوى في مواجهة الصعاب، وبعد فراقها فارقتهم الضحكة والسعادة والراحة التي لطالما شعروا بها وهي بين ظهرانيهم.
مد يده إلى فوق وكأنه يناجي خيالاً آتٍ من عالم سرمدي نقي، ثم تمتم بصوت مغصوص قائلاً: "لقد عاهدتني أنك لن تغادري أبداً، ثم أنك وعدتني أن الإخوة لا يرحلون". أحنى رأسه ثم تذكر سارة، ملامحها لا تغيب عن مخيلته، صاح مختنقاً: "ماذا فعلتُ بك؟ أمسك برقبته وكأنه يختنق، يشهق ويزفر، ثم يختنق ثانية فيشهق ويزفر.
عَصَر جانب بطنه الأيمن بنعومة، اندفعت منه آهة ثم تحسس ندبات خيوط الجراحة، سقطت دمعة من عينه ثم تأمل طويلاً في سقف السجن المتآكل، تذكر أخاه سلمان وطفولتيهما البريئة بين سهول نابلس وبساتين الزيتون وافرة الظلال، حكَّ أنفه وكأنه استذكر رائحة الزيتون المنبعثة من المعاصر العتيقة التي يضجُّ فيها العمل، واستحضر كيف كان يساعد جده لأمه في معصرته القديمة ويتذوق رونق الزيتون ونكهته المرة والحجر الذي يحكي قصة الصمود الأزلي لبقاء الجذور في الأرض؛ هذا الحجر الدائر وهو يسحق الزيتون يختزل رحلة طويلة لأهل الوطن الأبرار.
تَمَدَّد ياسين على الأرضية الباردة، كانت الروائح المنبعثة من دورة المياه تقرع خلايا دماغه، ثم استرخى واستغرق في التفكير، ظهرت صورة أمه في ذهنه وهي ترسله إلى السوق رفقة سلمان لإحضار مكونات الكنافة النابلسية، كانت تعدها بطريقة مبدعة وترسل قطعاً منها إلى الجيران ليتذوقوها، ثم تغيرت ملامح وجهه إلى الوجوم حال تذكره الموقف الذي لم يُمسح من ذاكرته، يوم أوقفتهما دورية إسرائيلية، كانا حينها في سن العاشرة وكان سلمان يتحلى بالشجاعة بدرجة أكثر من أخيه ياسين، الأمر الذي جعله على الدوام يتصرف وكأنه الأخ الأكبر له. عبر الطفلان الشارع المار من أزقة حارة القيسارية التي تمتاز بطابعها المعماري الخاص والضارب في عمق الحضارات المختلفة التي تعاقبت عليها، وبالقرب من أحد الحمامات التركية كان ياسين وسلمان يتناوبان على حمل كيس من القرنبيط كانت أمهما قد أرسلتهما إلى السوق لابتياعه لتحضير اللخنة النابلسية التي يحبانها. كان الكيس ثقيلاً فاتكأ ياسين لاسترداد أنفاسه على أحد الأسوار الرومانية التي تفوح منها رائحة الإمبراطور الروماني قيصر. بدا أن الدورية الإسرائيلية في مهمة لاغتيال أحد المقاومين. ظهر وجه أحد الجنديين من الزجاج وبرزت ملامحه القاتمة يختفي رأسه في خوذة حديدية ضخمة، فيما كان الجندي الآخر يستخدم هاتف الاتصال اللاسلكي. مر المقاوم يعدو أمام الطفلين يلهث وتوشك أنفاسه أن تنقطع، أشار بيده إلى الطفلين بأن لا يخبران الدورية بمروره، تمكن الرعب من قلب ياسين وظل متسمراً في مكانه مشدوهاً، فيما بقي سلمان رابط الجأش بجسد لا يتزحزح ولا يرتعد. انزوى المقاوم في زاوية غير منظورة للدورية، وظهر سلمان أمامهما مباشرة، كان في استعداد تام لمواجهة العسكريين، صاح أحدهما موجهاً الكلام إليه: "أين هرب. هيا أخبرني الآن؟!" ثم استأنف الآخر: "لقد رأيتك تتحدث مع الهارب، لقد ركض من هذه الطريق". لم يتردد سلمان في الرد بكل ثقة بأنه لم يرَ الهارب، وأنه كان يلاعب قطة. فتش الجنديان كل ركن من المكان، ياسين المتجمد على الحائط فقد كل قدرة له على الكلام، تقدم جندي نحوه وجذبه من كنزته، قال وهو يمسح على وجهه بعنجهية: "يبدو أنكما توأم". قبض على رقبته وكادت روحه تخرج، بينما أمسك الآخر بسلمان، قاوم بكل قوته محاولاً مساعدة ياسين الذي فقد وعيه تماماً بينما أخذ الجنديان يركلان سلمان على جانبي بطنه حتى أفقداه الوعي. عندما قدمت سيارة الإسعاف كان ياسين قد استفاق من غيبوبته جالساً بجوار سلمان الذي كانت نبضات قلبه لاتزال تدق في أذني ياسين بنسق منتظم يسرد قصة توأم لم يفترقا لحظة واحدة، تقاسما كل شيء في هذه الحياة، كان ياسين يخشى أن يغادر سلمان فيفقد نصفه الآخر ويتلاشى بذلك نصف حياته بأحلامه وذكرياته.
فتح ياسين عينيه فجأة ولوهلة ظن أنه في مكان ما في ذلك المستشفى. لكنه سرعان ما أدرك أنه لايزال في محبسه الجديد، أغمض جفنيه وأخذ يتأمل المشهد عند وصولهم إلى مستشفى نابلس التخصصي. كانت حالة سلمان حرجة للغاية وتستدعي على الفور إجراء عملية لتدارك ما تهشم من كُليته الوحيدة التي ولد بها، كانت سارة في الخارج تقرع الأبواب وتسعى للتبرع بإحدى كُليتيها ودموعها تنهمر بغزارة، لكن الأوان كان قد فات على فعل المعجزات. لفظ سلمان أنفاسه الأخيرة بعد أن توقفت كُليته عن العمل ولم يعد هناك أي أمل في زرع أخرى له.
غَيَّر هذا اليوم حياة ياسين وسارة، وبالرغم من أن ياسين قد عاين بأم عينيه ما حصل لأخيه، إلا تأثير ذلك كان أشد وقعاً على سارة، التي قطعت وعداً لأمها أن تحميهما وأن ترعاهما وأن تموت قبلهما، موت سلمان جعلها تزداد إصراراً في حماية ياسين، الذي بات الانتقام يتقد من عينيه والإصرار على الانضمام للمقاومة يعمر قلبه وأصبح الثأر لموت أخيه الهدف الوحيد الذي يؤرقه ويشغل خاطره.
سارة تكبر أخويها بعشر سنوات، ذلك لأن والدتها ظلت سنوات عديدة تحاول الإنجاب دون جدوى، كانت تتمنى من كل قلبها أن يرزقها الله بإخوة تستعين بهم في قادم الأيام على مشقة الحياة في مدينة نابلس التي تعاني الويلات بسبب ما تقوم به قوات الاحتلال من إذلال في حق القرى خلال عملهم في حقولهم وكسبهم أرزاقهم. يوم أقبل التوأم شعرت سارة بأن حلمها قد تحول إلى حقيقة مرئية وهي تشاهدهما عبر زجاج غرفة المواليد، لكن سرعان ما خيم الحزن على وجهها ذلك اليوم، وجعل البسمة التي انتظرتها لسنوات مديدة تتبدل إلى كدر وغم وخوف على مستقبل الطفلين عندما أخبرهم الطبيب أن الطفلين قد ولدا بكُلية واحدة وأن ذلك قد يشكل خطورة على حياتهما. مر شهر كامل قبل أن يخرجا من المستشفى بصحة جيدة، ومنذ ذلك اليوم آلت سارة على نفسها أن ترعاهما وإن استحق الأمر أن تتبرع بكُليتيها لهما عن طيب خاطر، وهذا ما كان يجول في عقلها، حتى أنها كانت تلمح لأمها بذلك، دائماً ما كانت تمانع ذلك وتهددها بأنها ستغضب عليها إن تفوهت بمثل هذا الكلام مرة أخرى، كانت الأم تقبلها بين عينيها وتخبرها بأنها كانت تنتظر هذين المولودين بكل شوق، لكنها طفلتها البكر وأول فرحتها وحبها الذي لا يضاهيه شيء.
تَشَارَك الإخوة ألم الحياة اليومية أكثر، عندما ترك والدهم المنزل مع زوجته الجديدة، رحل بعد أن باع سيارة الأجرة مصدر رزقهم؛ طعامهم ودواءهم، غادر فلسطين مع زوجته التي تحمل جنسية كندية وغاب في زحام الحياة. حياة الحصرم التي عاشتها سارة وياسين وسلمان، كانت عنواناً لمشاركة الوجع، تقاسموه كمن يُقسِّم الرغيف بمسطرة، صار كل منهم أماً للآخر دون أن يُكتب ذلك في شهادة الميلاد أو أن يتبجح الواحد على الآخر. كل ذلك الألم كان مغروساً في أقحوانة سوداء في نياط قلوبهم.
كانت سارة تقول لهما في لحظات الصفوة عندما كانوا يقطفون ثمار الزيتون كل خريف، أن الإخوة لا يرحلون، ربما تموت الأم ويرحل الأب، لكن الإخوة لا يرحلون. إنهم يلعبون الغميضة تحت تلكم الشجرة المربوطة من حبلها السري بفلسطين والمعقودة في مجرتها قلوب تنبض كقلب واحد.
لم يكن يهمه الأسر بقدر ما كان ينتابه الخوف من فكرة أن سارة الآن وحدها بعد أن رحل أخواها، غادرا وكانت سارة تجري وراءهما حتى سقطت في أتون الحياة القاسية، تصرخ وهي تودعهما بأن الإخوة لا يرحلون، لكنهم رحلوا بعيداً تاركين نعالهم ترفرف في دمها وفي الردهات، معلقة همساته بين نارين؛ نار البقاء في نابلس ينخر الانتقام قلبه ونار الرحيل إلى السجن حيث يوجد الموت في صنوف متنوعة.
ألصق ياسين خده في الجدران الباردة وأجهش ببكاء هادئ، فقد كبرت قائمة العودة في سجل سارة، وكم من عودة ستنتظر، فهي الآن بين النارين، تنتظر ولا تنتظر، تحلم ولا تحلم. بَردت أنامله فمد يده إلى خيوط الشمس الذي بدأت تتسرب من النافذة الغامقة، أزرقت شفتاه من قلة الطعام والماء، وملامح الجلادين بدأت تطل قولاً وفعلاً، في عيونهم صولجان الموت الضاري، نظر إلى عروقه البارزة في ساعديه، تمعن طويلاً وتبسم وكأنه لمح هزيمة الخوف فيهما، تكور جسده كقنفذ مرتعب، تلمَّس كُلية سارة في جانبه الأيمن، ابتسم ابتسامة بدَّلت تقاطيع وجهه المكروب، ثم أخذ يحدق في الباب منتظراً تفاصيل قصة أسره في أول يوم لها.