

استنزاف
كنت أتصفح ألبوم ذكرياتي،صفحات من الصور تتضاعف سنوات عمري السبعيني، أختلفت جودة ألوانها ما بين الأبيض والأسود والملون. منها ما هو ناصع، والآخر باهت كبقية أيامي، وقعت عيني على خانة من الصور، زادت رعشة يديّ وقتها. صورة لي من الماضي في زمن الحرب؛ وسط صحراء سيناء بجسد كالأسد ملوح بسلاحي، وبرفقتي صديقي وأخي (ياسين) يقف شامخًا، يلوح أيضًا ببندقيته الآلية. انتقلت ذاكرتي للمكان والزمان في التّوّ؛ أسمع صوت ضجيج الطائرات من فوقي، واهتزاز الأرض من تحت أقدامنا، تقذف علينا دانات لا تعرف الرحمة، نصارع الموت -أنا ورفيقي- كتفًا بكتف. صرخ ياسين بوجهي "اجري خدلك ساتـر". لم يكمل كلماته حتى أصابتنا دانة صاروخية بموقعنا؛ تطايرت أجسادنا في الهواء، الغبار يحيطنا من كل مكان، لم أشعر وقتها بأي شيء، غبتُ عن الوعي لدقائق،كنت رابطًا بندقيتي بصدري حتى لا تغادرني قبل روحي. عاد وعيي مرة أخرى وبعدها شعرت بسائل لزج ساخن يغطي عينيّ، وألمٌ برأسي. صرخت "ياااااسين". كررتها وسط الغبار الأصفر المختلط بالدخان الأسود، كنا محاطيْن بدائرة نارية، وصهد جنهم يلفعنا. رأيتُ بين الغبار شيئًا يزحف نحوي، كنتُ في حالة ضبابية؛ لم أفرق بين العدو والصديق؛ خائفًا؛ ليس من الموت، ولكن أين ياسين؟! صرخت أكررها بلا خوف "ياااااسين". حاولت الوقوف حتى أرى بين الضباب من يقترب مني، أحاول الوقوف. لم أتمالك نفسي، أعيد الكرّة مرتين ولا جدوى، نظرتُ لجزئي السفلي فرأيت بركة من الدماء تفترش حولي؛ انفصلت قدماي عن جسدي، فاقدًا الإحساس بالألم انتابتني رعشة، وما زال الشيء الضبابي يقترب مني، أحاول الزحف. اصطدمت ذراعي بقدمي المبتورة وبيادتي الممزقة، نزلت دمعة مني دون قصدي، قطع صدمتي صوت كحة ثم صوت مبحبوح:
– ميناااااا.. متخافش أنا جنبك مش هسيبك ياض.. لآخر نفس مع بعض. صرخت فرحًا بسماع صوته "ياااااسين" رددت عليه "أنا حي يا صاحبي.. قرّب أشوفك.. سامحني مش قادر أوصلك ". اقترب ياسين وهو يزحف أيضًا، ونظر إلىّ وبكى، احتضنني بذراع واحدة؛ فالأخرى أصبحت مبتورة. حمام من الدم يروي الأرض.
"مش هسيبك يا صاحبي". صرخت بوجهه "امشي أنت يا ياسين.. أنا انتهيت هنا.. وهاموت هنا.. أحفر قبري ولا هستني أي كلب منهم وأفجّر نفسي...". قاطع حديثي وفجأة التقط قدميّ وذراعه المقطوعة أيضًا وهو يحاول حفظ توازن نفسه من ثقل أشلائنا.
"رجلك وإيدي هدفنهم هنا.. هترجع ليها تاني وتاخد بتاري.. احفر معايا".
كان حماسه يفوق أي شيء؛ حفرنا ودمائنا تستمر في النزف، استنفذنا كل قوانا بالحفر؛ أنا بيديّ الملطخة بدمائنا؛ وهو بذراعه الواحدة المغطاة بتراب الأرض؛ حين اكتمل الحفر انتشل ياسين أشلائنا ووضعهم بحفرة واحدة، تحدث بصعوبة ونفس مكتوم "هات سلسلتك اللي في رقبتك". انتزعت القرص المعدني لهوية الجندي، وطلب مني نزع قرصه المعدني؛ يده الوحيدة مشغولة بإتمام الردم معي، ثم مزق قطعة صغيرة من سترته الممزقة في مكان بقية يده المقطوعة وأمسك بالأقراص المعدنية، ولفّهم بقطعة القماش من السترة، وأكمل الردم، ودسها بين التراب. وأنا معه، ثم زحف ببطئ شديد بجانبي؛ يبحث عن حجر طباشيري حتى وجده، وعاد وضعها فوق الرديم، ورفع إبهامه وأمسك إبهامي الملطخيْن بالدماء ينقش اسميْنا بدمائنا على الحجر (مينا ويس)١٣أغسطس ١٩٦٩.
"مينا دي علامة أشلائنا هنا.. هتعيش وترجع تدفنهم بنفسك" رددت عليه "هنعيش ونرجع كلنا ناخد بتارنا.. وهندفن ولاد الكلب هنا". خيّم الصمت فجأة على المكان، وهدأت أصوات القذف من بعيد. استغللت هذه الفرصة وحاولت الزحف بنصفي المتبقي يميناً ويساراً، كنت خبيرًا بصحراء سيناء، دليل طريق، أحاول العثور على مخرج آمن منه. كل شيء كان عشوائيًا حتى الانسحاب. جلس ياسين بجانب أشلائنا ينظر إلى السماء الممزوجة بسحب دخان الطائرات، يبلل شفتيه بلسانه، يمتص حتى دماءه المتجلطة، أسفل أنفه مطعمة برمال الصحراء، رأيتُ ممرًا من بعيد، تبعده مسافة عنا لا بأس بها للإنسان الطبيعي، أما نحن في حالة يرثى لها، خاصة "أنا" هو الأقرب للنجاة ما لم يحدث شيء آخر يغير الأحداث، عاودت الزحف نحو رفيقي وأخي ياسين، شرحت له طريق الممر، والمتوقع منه أثناء السير "توكل على الله يا يس وسبني هنا جمب حاجتنا.. لو شاء ربنا ليك الرجوع أنت عارف هتعمل إيه في جثتي". غضب ياسين من كلامي وضرب الأرض بيده الواحده "قولت مش هسيبك.. مش هسيبك.. هترجع". رفعتُ عيني لأعلى نحوه وأنا بالأرض تبادلنا النظرات، لم نتمالك دموعنا من النزول؛ لن يمهلني فرصة الاختيار، لا يوجد معنا سوى أسلحتنا المربوطة بعنقينا بقايشٍ من القماش، أخذ يبحث حولنا ويفكر، وجد حقيبته ممزقة وملقاة على الأرض. لم يعد شيء سليمًا فيها سوى حبل شديد المتانة، وجزء منه محترق.. التقطه بيده الواحدة، وهرول إليّ وأنا أنظر له فى دهشة، قال "امسك الحبل اقطع منه حتتين بسونكي السلاح". نظرت مستغربًا، فأنا أعرف فيما يفكر، صرخت "لاااا لاااا.. اللي بتفكر فيه ده لا يمكن يحصل". رد بحزم "نفّذ يا عسكري ده أمر". رددت "يبقي اقتلني أهون يا حضرة الضابط أنا حمل عليك تقيل". فقد نسيت وقتها أن ياسين ضابط فرقة المشاة؛ ويجب إطاعة أوامره، حدث كل ذلك أثناء عملية استطلاع زرع قنابل بأماكن معينة للعدو، تفرقنا بعدما كشفت طائرات الاستطلاع جزءًا منّا، حتى حدث ما حدث وقتها، تذمرت قليلًا فيما يطلبه مني؛ فقد أصبحت عبئًا عليه، ومخاطرة الحفاظ على حياتي يعرضه للموت وهو الأقرب للنجاة مني، إلا أنه عمّر ذخيرته وصوبها نحو نفسه هو إنْ لم أنفذ الأمر، عكس جميع الأوامر والأعراف العسكرية في العالم؛ يهددني بإنهاء حياته ما لم أنفذ أمره، أمسكت الحبل منفذاً الأمر على قدر استطاعتي، وهو يحاول أن يساعدني بيده الواحدة، قطعت الحبل نصفين بسونكي السلاح الآلي، جلس على الرمال لاصقًا ظهري بظهره، أراد يربطني خلف ظهره ولا يتركني وحيدًا بالصحراء، لولا قطع ذراعه لكان الأمر أسهل عليه بجسده المفتول، بعد عدة محاولات، وبصعوبة بالغة ربطتُ الحبل تحت إبط ذراعي اليسري ملتحمة بذراع ياسين بنفس الطريقة، والجزء الثاني من الحبل ملفوف على صدورنا. حاولت أنا بعد جهد تأمين الحبل جيدًا، وأصبحت يداي الاثنان حرتين قادرتين على حمل السلاح بسهولة، أصبح هو في المقدمة وأنا خلفه محمولًا كالحقيبة ننزف دمًا، وفي حالة إنهاك تام. بدأ يزحف على الأرداف ببطء حتى يخفف الضغط عليه، يحمل سلاحه بيد واحدة، وأنا على ظهره بثقل سلاحي أيضًا، جاهزيْن لأي شيء، يس لا يعرف الخوف، وأنا أخشي عليه، أصبحت شيئًأ رخويًا مترهلًا، لحمًا سهلًا لأي حيوان جائع، لماذا لا يتركني ويكمل هو طريقه؟ اقتربنا من الدخول في الممر، يعتبر هو أضعف نقطة حصينة يمكن المرور منها للعبور لمعسكرنا، هنا طلبت من الضابط يس بصفة عسكرية كدليل طريق أن يعكس مكانينا، أُصبح أنا في الواجهة وهو في الخلف، يتطلب منه الأمر الرجوع للوراء، وأصبح أنا العين الأمامية بصفتي دليل، ثانيًا أستطيع التحكم أكثر بحمل السلاح والتصويب. حاول الاعتراض ولكني استخدمت هذه المرة حقي العسكري في التوجيه؛ ارتبطت مصائرنا ببعض، ما يصبيني يصيبه، روحًا وجسدًا واحدًا حقيقيًا وليس مجازًا، بطل مغوار أراد أن يعبر بآخر عسكري معه كظله.
بدأت بتوجيهه بصوت خافت جدًا داخل الممر، لمحت نور عربة العدو ينبعث منها ضوء أصفر باهت ضعيف ، لم أستطع تحديد نوعها، ولمحت أيضًأ خيالًا بعيدًا لظل طويل. سألني يس وقتها "حاول تعد كام ظل". نظرت ودققت النظر، شاء القدر أن أحدهم أشعل سيجارة لثوانٍ، واشتعل ضوء سيجارة أخرى، أجبته بصوت خفيض "اتنين بس". رد بنفس النبرة "حلو.. أنا معايا قنبلة يدوية واحدة". اقترحت عليه وقتها أن أصوب هدفي نحو ضوء السيجارة. رد "لو عملت كده ومجاتش يبقي انتهينا.. لازم تبقي ضربة واحدة تاخدهم كلهم.. ويا صابت يا خابت". ساعدنا في ذلك التخفي والزحف ببطء حلول الليل، بدأنا في الزحف على الأرداف مرة أخرى، أنا فى الواجهة وهو في الخلف، يتحرك للوراء بظهره تعني أنا أتقدم، مع توجيهات بيننا أصبحنا في أقرب نقطة نرى بها ضوء السجائر المشتعله بفميهما، أقترب بعينيّ من نوع العربة، فهى من طراز suv جيب زيتية اللون، فجأة طلب مني يس بإشارة من يده أن ألتفت له وأنظر، نفذت على فور فى صمت "معلش يا أخويا هتوحشني.. مفيش حل تانى.. الله اكبر" وأنا معه أرددها ، أصبح هو في الواجهة وقد أخرج القنبلة بيده الواحدة ونزع فتيلها بفمه، وألقاها عليهما بكل عزمه، وتدفقت نيران ببندقتيه يمينًا ويسارًا، وأنا ملتصق بظهره ممسك بسلاحي أطلق أعيرتي النارية، نردد معًا الله أكبر في نفس واحد، كنت في الخلف بعد أن هدأ الدخان قليلًا وجدنا الاثنين قد أصبحا بالفعل جثتين على مقربة بسيطة من العربة، مردديْن الله أكبر اقتربنا بحماسة مع الحذر، كان يس منحني الظهر، كادت أن تخور قواه، وصلنا للعربة في جحيم ليل ظليم، طلب مني على الفور سرعة فك الحبل، وجلس في مركز قيادة السيارة، وأنا بجانبه. بعد أن حللتُ الحبل "أنا هسوق برجلي.. وأنت عارف الطريق.. تتحكم أنت في الطارة". اتفقنا على ذلك، وبعناية إلهية لم نعرف كيف حدث ذلك "بسرعة يا مينا قبل ما القوات تهجم بعد صوت الانفجار ده" أدار المحرك ووضع قدميه ع دواسة الوقود والدواسة الأخرى الخاصة بالدبرياج، وأمسكت أنا بالطارة، وقطعنا جزءًا كبيرًا، وعلى مقربة أمتار بسيطة من دخول معسكرنا "الحمدلله يا مينا.. الله أكبر يا صاحبي.. الله أكبر يا خويا". لم يكمل يس كلماته، فوجئنا بوابل من النيران يطلق علينا من كل اتجاه، جاءت إصابته بعنقه مباشرة، نظر إلي وسط نافورة من الدماء،كانت نظرته الأخيرة وأشار بأصابعه لي بالمرور واستكمال الطريق وأنا أصرخ "يس.. لاااا لاااا.. مش هتموت يا خويا.. مش هتموت يا بطل.. إحنا خلاص وصلنا". ظلت قدماه بالأسفل ضاغطتين على الدواسات، تضخ الوقود وتحرك السيارة للأمام حتى وهو شهيد، ولا زلت أنا ممسكًا بالطارة؛ أعافر في آخر لحظات الوصول، روحه قادت العربة لآخر نفس كما وعدني أخي، هو أخي بالفعل وليس صديقي.. الشجاع الشهيد يس جاد الرب عبد الله، وأنا مينا بطرس موسى؛ القعيد إلى يومنا هذا، لأسرد قصة أعظم بطل، روح طاهرة كانت تقود الكتيبة، كل مطالبي عندما سُئلت عمّا أتمناه لم يكن في خاطري سوى التفكير بالقادم.. والقادم لمن في مثل سني عمري هذه لا يعني إلا مقابلة الخالق؛ فمن واجه الموت مثلي لم يعد يهابه كما تظنون، هو فقط مرحلة جديدة، مرحلة تمنيت فيها أن أكون بجانب أخي يس، لطالما كنا حيين معًا، فلنكن معًأ في الموت أيضًا لم أنطق سوى كلمات معدودة "أن تدفن جثتي في نفس مكان أشلائنا، وأن تكتب قصة الضابط الشهيد يس على قبره".
تمت