الثلاثاء ١٠ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم زهراء طالب حسن

أمواجٌ بلا قبرٍ

في مدينةٍ معزولةٍ عن العالم، مختلفةٍ عن كل المدن، حيث عاش فيها بشرٌ يكاد نوعه ينقرض بين باقي البشر، في جوار بحرٍ ساحرٍ، سخيِّ الخيرات، متشبثين بأرضٍ لم يتبقَ لهم غيرها، بعدما خلَّفوا وراءهم مساحاتٍ واسعةٍ، إذ جاورهم غولٌ عملاقٌ، سمجٌ، له أذرعٌ كثيرةٌ متعددةٌ، كأخطبوطٍ بمخالبَ طويلةٍ وذيلٍ مسمومٍ. أحكم الغول قبضته على رقاب المدن المحيطة، فأذعن مَن فيها خوفًا ورعبًا من بطشه المتعطش للدماء، فخرُّوا أمامه صعقين.

لم يكترث أهل المدينة لزمجرات الغول؛ سخروا منها، فراحوا يحرثون أرضًا مباركةً عمرها آلاف السنين، ويزرعون بذورًا وعدتهم بثمارٍ شهيّةٍ. لم تكن تهديداته لتمنعهم من إعمار أرضهم، فشيدوا البيوت والبنايات، وزينوا الشوارع، وأقاموا الأعراس والأفراح، فكانت شواهد على تمسكهم بأرضٍ من عجينتها جُبلَت أرواحهم.

لم تكن محاولاته في إخافة السكان مجديةً، إذ كانت أذرعه من الخبث بحيث تتسلل بين البيوت والأزقة، فتختطف من تصادفه في طريقها، لا تفرق بين رجلٍ أو امرأةٍ أو طفلٍ، تلقي بهم في ظلمات أحشائه العفنة، أو تعصر رقابهم حتى تنزع أنفاسهم، فتلقي الأجساد العنيدة إلى أهلها، ليزيد وجعهم وألمهم. لم يكن اختفاء أو اعتقال أو قتل فردٍ أو جماعةٍ إلا سببًا آخر يشدّ على عزيمة السكان بالبقاء، والدفاع عن ذلك البقاء، حتى بات العالم في دهشةٍ من إصرارهم، وقدرتهم العجيبة على الصمود، على الرغم من قلة العدد وضعف الحيلة.

بدا ذلك الفجر عاديًا جدًا، إذ استيقظَت العيون النائمة في أحضان أحلامها على هزةٍ أرضيةٍ ضربت قلب الأرض تحت أسِّرتهم الآمنة. فزعَت الأجساد وبلغَت القلوب الحناجر. أدركوا من فورهم أن الغول ضرب بأقدامه الأرض، فزلزلها وقلب عاليها سافلها. تراكضَت الأجساد المستعدة للموت في كل اتجاهٍ؛ هذا يحمل سكينًا، وذاك يرفع عصًا وآخر يلتقط حجرًا. يتقدمون لملاقاة الغول الذي أوغل في خطواته غير آبهٍ بكل تنديدٍ.

لاذت النسوة بأطفالهن، فاختبأن في المدارس، وتحت أسقف الجوامع، وظلال أشجار الزيتون، وعلا صوت الإنسان والحق، بعد أن ضاقت الأرض بالظلم والعدوان. رصدَت عيون الكاميرات ما يحدث عن كثبٍ، فكان شاغل الناس وحديثهم. شاهدوا دكّ الأبنية، وتراكم الجثث في الطرقات. تُرِكَت الحقول بلا سقايةٍ حتى سال جدولٌ من الدماء، فكان كافيًا لارتوائها قبل أن تطال أذرع الغول الأشجار، فاقتلعتها من جذورٍ عنيدةٍ تشبثت بالأرض، حتى تقطعت أوصالها. ثمّ انطفأ الصوت، وغلّفَت العتمة المدينة بستارٍ، فما عاد العالم الخارجي يسمع أو يرى، وقد تراكم غبارٌ سميكٌ على عيون المراقبين وآذانهم.

كانت ترددات الهزات الأرضية واضحةً قويةً، نقلتها الأرض والبحار بكل شفافيةٍ، كشفراتٍ سريّةٍ تدعو للصحوة من إغماءةٍ طال عهدها، علّ العالم يدرك أن سوءًا يحدث في تلك المدينة المكتظة بأحيائها. فما كان للبشرية إلا أن تبتلع خيباتها، وهي تقف عاجزةً أمام ذلك الغول.

أشهرٌ عديدةٌ ابتلعَت أيامًا طويلةً. سكنَت الأرض فيها، وقد انتشى الغول من كمّ الدماء التي روَت جبروته. اطمأن العالم لسلامة الموقف. أرسلوا بعثات إغاثةٍ مستعجلةٍ، وفُتحَت ملفات تحقيقٍ للوقوف على ما جرى، وكُتبَت مقالاتٌ كثيرةٌ، ونُشِرت تحليلاتٌ عديدةٌ في الصحف والبرامج التلفازية تناولَت القتل والدمار اللذين حلّا في المدينة.

كان على رأس المغيثين بعثةٌ تهدف إلى جمع الأدلة؛ كلّ الأدلة التي تفسر ما حدث، وكيف حدث؟ استخدموا فيها أحدث التقنيات، لجمع العينات وكان أبرزها جهازُ الكشف عن الصرخات الأخيرة، تلك التي تهرب من الحناجر قبل أن ينطفئ الصوت، إذ تغادر الروح الجسد.

تربعَت الآلة فوق الخراب. وصلوا الأسلاك بمولدات الطاقة. تحفزَت أجزاؤها لالتقاط الموجات الصوتية العالقة في الهواء؛ تلك التي لم تجد قبرًا يضمّها. أصابت الـأسلاكَ رجفةٌ أجفلتها. انتفض الخبراء حولها ينظرون ما الخبر، سرعان ما التقطوا موجةً من آلاف الموجات السابحات. رعدَت كما الرعد في ليلةٍ هائجةٍ:

"باقون وإن قُطِّعنا أشلاءً. عائدون من الموت لنموت مرةً أخرى على أرضٍ لا نريد أن نعرف سواها."

اصفرَّت الوجوه، وتبعثرَت النظرات. لملم الجمع آلاتهم على عجلٍ. تعثَّر بعضهم ببعضٍ، وهم يهرولون باتجاه مركباتهم مذعورين، وقد أدركوا أنّ من يعيش على تلك الأرض ليسوا بشرًا عاديين!

تمت


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى