نسخ من التركيب الوصفي في لامية العرب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد ..
فهذا بحثي بعنوان: (التركيب الوصفي في لامية العرب للشنفرى دراسة تركيبية دلالية) ولقد كان من أسباب اختياري لهذا الموضوع هو مكانة لامية العرب وأثرها في نفوس المتلقين، وهو الشاعر المعروف بصعلكته، فأحببت أن أطرق حياته وشعره. كما أنه ندُر الحديث عن التركيبات الوصفية في الشعر العربي فأحببت أن أطرق هذا الباب، ولكن هناك العديد من الصعوبات التي واجهتني في بادئ الأمر تمثلت في قلة المصادر والمراجع التي تتحدث عن مفهوم التركيب الوصفي عامة وعن التركيب الوصفي في لامية الشنفرى خاصة.
فإن أحسنت فبفضل من الله تعالى وإن غير ذلك فأنني بشر يخطئ ويصيب والكمال لله وحده والله الهادي إلى سواء السبيل.
تمهيد
«الوصف غرضاً والوصف أسلوباً»
عرف الوصف بأنه: (ذكر الشيء بما فيه من الأحوال والهيئات)،
[1]
وعرف أيضا (بأنه الإخبار عن حقيقة الشيء).
[2]
والوصف في الشعر من أكثر الظواهر عمومية والتباساً وهذا بسبب عدم إحكام التمييز بين الوصف غرضاً يقصده الشاعر لذاته، والوصف باعتباره أسلوباً تستخدمه الأغراض وتلونه ألوانها.
فالشعر غرضاً هو كلام يصف فيه الشعراء أشياء أو كائنات أو مشاهد أو أخيلة يستحضرونها ليظهروا براعتهم في قول الشعر، ويجسموا ما تحيط به حواسهم ويعتلج في أفكارهم تجسيماً فنياً".
وأما الوصف باعتباره أسلوباً: فهو شعر له وظيفة تتجاوز ظاهر الكلام ويعبر من ورائه الشعراء عن مواقف أو عواطف لا يرغبون في الإدلاء بها مباشرة فيمثلونها ويشكلونها ويعمدون عمداً إلى إجرائها على صورة رامزة أو موحية لمعناها الظاهر معنى باطن خفي.
وهناك العديد من الشعراء بدا لنا الوصف في شعرهم ليس غرضاً فقط بل جاء الوصف أسلوباً ذا وظيفة بارزة ومنهم الأخطل.وتظهر أهم اللوحات الوصفية التشبيهية ضمن شعر النسيب في ترشيح مشهد الطلل وصور البكاء عليه والدعاء بالسقيا. فالأخطل حينما وصف الخمر لم يكن يقصد وصف الخمر، وإنما كان يبتني التعبير عن اضطراب عقله وجسده وتصوير مشاعره يوم فوجئ برحيل حبيبته".
[3]
حيث يقول:
كأنّني شاربٌ يومَ استُبدّ بهممن قرقف ضُمِّنتْها حمصُ أو جَدَرُجادتْ بها من ذوات القارِ مُتْرَعَةٌكلفاءُ ينحتٌّ عن خرطومها المدَرُلذٌّ أصابتْ حُميَّاها مفاصِلَهفلمْ تكدْ تنجلي عن قلْبهِ الخُمَرُ
ومن خلال ما سبق يتضح لنا أن هناك فرقاً بين الوصف باعتباره غرضاً والوصف باعتباره أسلوباً، وهذا البحث يعني بالنوع الثاني وهو الوصف باعتباره أسلوباً وكيف وظف الشاعر الشنفرى هذه التراكيب الوصفية لخدمة المعاني التي تدور في أعماقه.
المبحث الأول
«اللامية ومعيارها الوظيفي»
أ- الشاعر:
" اسمه": قيل أن اسمه ثابت بن أوس وقيل: ثابت بن جابر، وقيل عمرو بن براق، وقيل: عمرو بن مالك، في حين اكتفت المصادر الأخرى بإيراد اسمه هكذا (الشنفرى الأزدي).
نسبه: تجمع المصادر على أن الشنفرى ازدي، يقول ابن الكلبي فمن بني الحارث بن ربيعة بن الأوس بن الحجر بن الهنو بن الأزد الشنفرى الشاعر، قتلته بنو سلامان بن مفرج.
لمحة عن حياته:
لم توفر المصادر معلومات واضحة عن حياة الشنفرى وكل ما ورد عنه أنه من الأزد، وكانت أمه سبية سباهاً مالك أبو الشنفرى، وتفسير المصادر أن الشنفرى كان والده رجلاً له منزلته في قومه بين الحارث بين ربيعة الأزديين. لكنه كان قليل المال، ولقد أقام الشنفرى في بين سلامان، ولقد بدأت صعلكة الشنفرى لأسباب قيل أولها ما يمثله قوله في بني سلامان: " أما إني سأقتل منكم مائة رجل بما اعبتدتموني" والثاني: قتل بني سلامان للرجل الذي أحسن إليه، وزوجه ابنته فجعلت الفتاة تستعجله الثأر لأبيها وقد زوجت منه غصباً) .
[4]
ب- لمحة عن اللامية:
( يقول أبوعلي الغالي عن اللامية: وهي من المقومات في الحسن والفصاحة والطول"
ويقول أبو هلال العسكري: ومما هو فصيح في لفظه، جيد في وصفه قول الشنفرى:
أطيل مطال الجوع حتى أميتَهُ
وأضرب عنه القلب صفحاً فيذهل
ويقول ياقوت الحموي مفضلاً شعر الشنفرى: قول الشنفرى أبلغ لأنه نزه نفسه عن ذي الطول"
ويقول جورج ياكوب: إن اللامية تنتهج مذهباً شعرياً ممتازاً لدرجة تنبئ عن صاحب اللامية.
ويقول كارل يروكلمان: أما في لامية الشنفرى فيواجهنا مذهب شعري مستقل، فقد اتخذ الشاعر الوصف بمثابة المنظر الأساسي لتصوير الإنسان نفسه وأعماله.
ويقول نالينو:
أما الشنفرى الأزدي فصاحب اللامية المشهورة التي يفتخر فيها بإنفراده من قومه ووحشة عيشه في البراري كأنه لم يعاشر إلا السباع، وهي قصيدة غاية في الجمال تنطق بلسان حال الشاعر".
[5]
جـ- المعيار الوظيفي في اللامية:
( لقد عد منظري علم الجمال الوظيفة عله الجمال إلى درجة الاعتقاد بأن كل ما يؤدي وظيفته جيداً يبدو جميلاً.
ومن الواضح أن المعيار الوظيفي في الشعر العربي القديم وخاصة في شعر الصعاليك ومنهم الشنفرى الأزدي في لاميته العربية له دائرتان:
معيار ذاتي وهو جملة الخواص التي يكون فيها الشيء موجوداً، مثال ذلك الصلابة في الصخر، والإشراف في الشمس، والظلمة في الليل والدائرة الأخرى: استعمالية: ومحورها السمات التي يكتسبها الشيء في السياق.
وتعتبر الحيوية في التراكيب عنصر آخر من عناصر الجمال الوظيفي، وشعراء الجاهلية شديد العناية بهذا العنصر، وما ذلك إلا لأنهم شديد الإعجاب بالحياة ذاتها وما يوحي بها.
والحيوية في شعر الشنفرى تظهر من خلال هذه التراكيب التي تؤدي وظيفتها كما أراد الشاعر أن يصورها بروعتها سواءً أكانت هذه الصور منتمية إلى عالم النبات أم إلى عالمي الحيوان والإنسان، وإذا وقفنا النظر في اللامية ألفينا حرص الشاعر على هذا الأداء الوظيفي للتراكيب في تصوير الحياة بكل حركاتها سواءً أكانت في الأعضاء ذاتها أم في الحركات.
وحسبنا أن نذكر في هذا المجال، بلوحة الناقة في معلقة طرفة ابن العبد ولوحة الفرس في معلقتي كل من امرئ القيس وعنترة ولوحة الأتان يتبعها الحمار الوحشي في معلقة لبيد ولوحة الذئب في لامية الشنفرى ولوحة العقاب والثعلب في قصيدة عبيد بن الأبرص).
[6]
ومن النماذج في شعر الشنفرى على حسن أداء الوظيفة للتراكيب التي استعملها هذه الصورة التي يذكر فيها الشنفرى صور الذئاب التي أجاد في وصفها فالشنفرى في وصفه للذئاب جاء منسجماً مع نفسه انسجاماً حقيقياً واقعياً، فيقول: إن هذه الذئاب ضعيفة هزيلة ولكنها سريعة وهي تشبه رئيس النحل، الذي يرعى خلاياه يميناً وشمالاً ولا يتركها دون عنايته خوفاً من هلاكها، وهذه الذئاب مفتحة الأفواه وأشداقها واسعة وذلك من شدة الجوع، وقد صاحت هذه الذئاب صياحاً وجزعاً في الأرض الواسعة بحثاً عن طعام، ولكن ليس هناك طعام أمامها إلا العويل كالنساء اللاتي فقدن آباءهن أو أبناءهن.
إنها صورة مركبة منتزعة من البيئة من حيث تصوير حال الذئاب جوعاً وصبراً على الجوع وصبراً على لذعات الهلاك فنراه يقول:
مهلهلة فوه كأن شدوقهاشقوق العصي كالحات وبعسلفضج وضجت بالبواح كأنهاوإياه نوح فوق علياء ثكلشكا وشكت ثم ارعوى بعد وارعوتوللصبر إن لم ينفع الشكو أجملوفاء وفاءت بادرات وكلهاعلى نكظ مما يكاتم مجمل
[7]
المبحث الثاني
تركيب الصفة ودلالتها
يعد تركيب النعت من أكثر الوحدات الوصفية وروداً في اللغة العربية، وفي تركيب النعت يدمج عنصران في وحدة مركبة واحدة، ويتفقان غالباً في الخصائص الصرفية القابلة للتغيير في كل منهما، حيث يتقدم العنصر الرئيس الذي يحمل الارتباط الدلالي المباشر ببقية عناصر العبارة ثم يتلوه العنصر الثانوي".
[8]
وفي لامية الشنفرى سأقف على نماذج من هذه التراكيب الوصفية مع توضيح دلالة هذه التراكيب سواء أكانت التراكيب – الصفة والموصوف- متصلان أم كانت هناك عناصر فصلت بين الصفة والموصوف على غرار الصفة والموصوف في قولنا: نحتاج إلى جهاد مع الإنجليز عنيف" حيث فصل الموصوف "جهاد" عن الصفة " عنيف" بالجار والمجرور، وسيأتي توضيح ذلك فيما ورد في اللامية. فقد تكررت الصفة واحد وعشرين مرة . سأورد بعض الأمثلة، ومنها:
يقول الشنفرى:
فقد حمّت الحاجات والليل مقمر
وشدت لطيات مطايا وأرحل
" إن جملة " والليل مقمر" هي جملة حالية وهنا وصف وتركيب له دلالة حيث وصف الليل بالمقمر ومن هذه الدلالات لهذا التركيب: أن الليلة القمراء تساعد على تهيئة الرحيل وتوديع الأصحاب، وترتيب الأمتعة وحزمها وشد الرواحل، وتأمين الزاد للمسافرين، والعلف للمطي والركائب وهو ما يساعد على الارتحال".
[9]
ويقول الشاعر:
ولي دونكم أهلون سيد عملس
وأرقط زهلول وعرفاء جيأل
إن لكلمات "سيد، عملس، وأرقط وزهلول، وجيأل، لها دلالات قد ترغم بعضها مع بعض ليخدم تكثيف الصورة وأبرز المشاهد وتعميق الإحساس بالحركة واللون معاً.
ومن الناحية النحوية وتركيب هذه الكلمات فإذا كانت كلمات " سيد، أرقط وعرفاء" بدلاً من أهلون فمعنى ذلك جمالياً أن الشاعر جمالياً وبيانياً قد التقط صورة واحدة مع هذه الحيوانات في لقطة عائلية تمثل ارتباطه بالأهل الجدد.
وإن كانت هذه التراكيب أخباراً لمبتدأ محذوف تقديره " هو" فمعنى ذلك أن الشاعر قد التقط صورة للسيد منفصلة وكذلك للأرقط وللعرفاء.
وإن كانت هذه التراكيب صفات فمعنى ذلك أن الشاعر أراد أن يبرز الصفات المميزة لكل وحش على حدة، وأن كل صفة من هذه الصفات تميز نوع الجنس الوحشي".
[10]
" إن التركيب الوصفي في قول الشنفرى " سيد عملس، أرقط زهلول وعرفاء جيأل" إبراز لملامح الأرقط وتباين الألوان على جلده وقوة وسرعة الذئب وصورة لملامح الضبع الأنثى العرفاء ذات المشيئة المتسكعة".
[11]
" ومن الواضح في التراكيب الوصفية في النعت خاصة عند الشنفرى أنه يستم بخصائص عدة من أهمها خصيصة التكثيف اللغوي وهذا يعني اختيار اللفظة المثقلة بمدلولات مختلفة وقد تكون مقصودة بمجموعها ومن ذلك ألفاظه:
" عملس، زهلول، جيأل "
ومن ذلك قوله:
ولا جبأ أكهى مرب بعرسه
يطالعها في شأنه كيف يفعل
فالأكهى: البليد وكذلك الكدر من الأخلاق.
وفي تراكيب الشنفرى الوصفية نرى الإصابة في الوصف ومن ذلك قوله.
إذا زل عنها السهم حنت كأنهامرزأة عجلى ترن وتعولمهرته فوه كأن شدوقهاشقوق البصي كالحات وبسل
ويلاحظ أن التركيب الوصفي في شعر الشنفرى مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتشبيه. فهو يعطي الصورة التي يراها وصفاً ثم يعطي بإزائها صورة ممثلة بالتشبيه" .
[12]
ومن الملاحظ أن الشاعر الشنفرى أكثر من الوصف الذي يكون فيه المنعوت نكرة وكذلك النعت وذلك مثل قوله:
ثلاث أصحاب: فؤاد مشيع
وأبيض إصليت وصفراء عيطل
" يقول أبو العباس المبرد: لا أعلم أحداً وصف القوس بهذه الصفة غيره ( يقصد بذلك الوصف قوله صفراء عيطل)
وفي هذه التراكيب نابت الصفة عن موصوفها حيث أنه غير خاف أن الأبيض هي صفة للسيف نابت عن موصوفها كما أن الصفراء كذلك.
ومن الواضح الدلالات المعنوية لهذه التراكيب حيث أن القلب الواثق والسيف الصقيل والقوس الطويلة ما يكفي الشاعر ليغنيه عن صحبة بني أمه أو قل عن صحبة المجتمع الإنسني".
[13]
" وفي الوصف عند الشاعر الشنفرى نجد هناك العديد من الإيحاءات وذلك يظهر في مثل قوله:
ولكن نفساً مرة لا تقيم بي
على الذأم إلا ريثما أتحول
فالنعت " مرة" والمنعوت نفسا، ووصف النفس بالمرارة فيه إيحاء واضح ومن المعروف في دلالة هذا التركيب الوصفي بين النعت والمنعوت الكرتين أن النفس المرة تكون أصلب عوداً وقوة على أن تصبر على الذأم أو أن تسكت على باطل وظلم، وهذا هو ما تألفه شخصية الشاعر الشنفرى".
[14]
والإيحاء من هذا الوصف يبين أن الشنفرى تميز في الوصف كغرض والوصف كأسلوب فكما قيل:
والوصف باعتباره أسلوباً أي طريقة في القول فهو شعر له وظيفة تتجاوز ظاهر الكلام ويعبر من ورائه الشعراء عن مواقف أو عواطف لا يرغبون في الإدلاء بها مباشرة فيمثلونها ويشكلونها ويعمدون عمداً إلى إجرائها على صورة رامزة أو موحية لمعناها الظاهر معنى باطن خفي".
[15]
ومن هذه الصور الموحية علاوة على البيت السابق الذي وصف فيه النفس بالمرة نرى قول الشاعر:
وأغدو على القوت الزهيد
كما غدا أزل تهاداه التنائف أطحل
الزهيد: القليل والأزل: صفة لازمة
فالإيحاء في وصف الشنفرى واضح من السياق أي أنه يعيش في ظروف مجاعة اقتصادية لا يسطيعها أقرانه من رجال بني شبابة، وبني سلامان وغيرهم، ومن هذه الإيحاءات قوله عندما يتحدث عن الذئاب ويبين صورة الجوع التي تنعكس وترتسم على أيوانها الضوامر فيرى أجسامها هزيلة رقيقة، ووجوهها شيباً لشحوبها من شدة الجوع ثم هي مضطربه في مشيها لزوغان بصرفها بفعل الجوع وفي ذلك يقول الشنفرى:
مهلهلة شيب الوجوه كأنها
قداح بكفي ياسر تتقلقل
ومهلهلة: رقيقة اللحم.
[16]
وقد يأتي تركيب الصفة عند الشنفرى للدلالة على المبالغة وذلك مثل قوله:
إذا الأمعز الصوان لاتى مناسمي
تطاير منه قادح ومفلل
فالصوان نعت للأمعز، وفيه حذف للمضاف، وتقديره الأمعز ذو الصوان، ويجوز أن يجعل الأمعز نفسه لصوان على المبالغة، وحتى لو لم نجعل الصوان هو نفسه الأمعز ففي ذلك مبالغة من خلال دلالة لفظة الصوان ".
[17]
وفي تراكيب الصفة عند الشنفرى كثيراً ما تنوب الصفة عن موصوفها كما سبق في قوله:
" أبيض إصليت، وصفراء عطيل، وكذلك في قوله:
وأعدل منحوضاً كأن فصوصه
كتاب دحاها لاعي فهي مثل
فكلمة: منحوضاً معناها الذي ذهب لحمه وهي صفة قد نابت عن الموصوف والموصوف هو الشاعر نفسه.
ومن الصفات التي نابت عن موصوفها في تراكيب الشنفرى قوله:
وضاف إذا هبت له الريح طيرت
لبائد عن أعطافه ما ترجل
" ضاف: صفة عن موصوفها، والضفو: السبوغ ودلالة هذا التركيب أن شعره لبائد وذلك لكثرة ما يمسك من رمال وأوساخ ".
[18]
"ومعمار قصيدة الشنفرى يتضح فيها هيمنة الألوان الداكنة وهذا واضح من خلال النعوت وطريقة تركيبها ومدلولاتها وهذه الهيمنة أفادت في فرج الصوت بالصورة في نقل الوقائع وجزئيات الوصف ولكنها صبغت معمار القصيدة بأصباغ تداخلت فيها الألوان بالفنية الشعرية، فكانت الكثافات المختلفة والمناظر المتفاوتة التي توزعت في مضامين القصيدة ".
[19]
المبحث الثالث
التركيب الوصفي في الحال ودلالته في اللامية
" إن أساليب الحال ترتبط بالتركيب الأساسي، وتصف حال أحد عناصره بتخصيص الحدث أو الحالة المتصلين بها في ذلك التركيب، ويتفق زمن الحدث أو نشأة الحالة مع زمن الأحداث المعبر عنها في التركيب الأساسي في نقطة زمنية على الأقل، ولا يتصل الزمن في هذه الأساليب بالمستقبل مطلقاً لأن الأحداث أو الحالات المعبر عنها فيها لا تكون قد عرفت عند التعبير عن الأحداث الرئيسة المصاحبة، ولذلك تخلو أساليب الحال من الأدوات الدالة على زمن في المستقبل مثل: السين و" سوف" و"لن" وهناك أساليب للحال في العربية احداها غير الموسومة ويكون ارتباطها بالتركيب الأساسي من خلال وصفها الجزئي للحدث، والثانية موسومة ويسبقها حرف المواد".
[20] وقد تكرر الحال في اللامية أربعة عشرة مرة، ومنها:
من أمثلة الحال الموسومة قوله:
– فقد حمت الحاجات والليل مقمر
فجملة " والليل مقمر" جملة حالية وهي تؤدي معنى مهم وهو ضرورة العجلة في الرحيل في وقت الليل وقبل أن يشتد الحر ويهجم العطش"
– وقوله :
" سرى راغباً أو راهباً وهو يعقل "
فجملة وهو يعقل حال، ودلالة التركيب على ضرورة الرغبة مع توافر العقل أو الرهبة مع توافر العقل.
– وقوله:
مجدّعة سقبانها وهي بهل
فجملة وهي بهل جملة حال من قوله: ولست بمهياف يعشي سوامه
وقوله:
فضج وضجت بالبواح كأنها وإياه نوح فوق علياء ثكل
فجملة " كأن" وما عملت فيه: في موضع نصب على الحال من الضمير في قوله: " ضج وضجّت" وفي دلالة الحال نجد وكأن الذئاب المجتمعة قطعانا في الأرض الفضاء تعوي، وكأنها جميعاً نائحات ثواكل تنوح فوق ربوة عالية، والتشبيه هنا إنما هو لتعميق صورة الحزن الذي انتاب هذه الذئاب مع ضياع الأمل.
وقوله:
وفاء وفاءت يادرات وكلها على نكظ مما يكاتم مجمل
فجملة وكلها على نكظ، في محل نصب على الحالية ودلالتها لوصفية أن هذه الذئاب مجملة أي تفعل الجميل " مع أنها جائعة وصاحب الحال: الضمير في "فاءت".
وقوله:
دعست على غطش وبغش وصحبتي سعار
فجملة " على غطش" موضع الحال: أي: داخلاً في ظلمة ومطر وصاحب الحال: الضمير في " دعست" فهو يقول: سريت على حال من الظلمة والمطر في صحبة من حر الجوع ".
[21]
ومن الحال التي جاءت في لامية العرب للشنفرى وهي غير موسومة أي لم يسبقها الواو مواضع عديدة أذكر منها خمس مواضع:
قوله: لعمرك ما في الأرضي ضيق على امرئ: سرى راغباً أو راهباً وهو يعقل فراغباً، وراهباً حال من الضمير في سرى"
وقوله:
ولست بمهياف يعشى سواقه مجدعة سقبانها وهي بهل
فمجدعة حال من سوامه وهي دلالة على سوء الغذاء.
وقوله:
غداء طاوياً يعارض الريح هافياً.
فطاويا وهافيا حال من الضمير في "غدا" وفيه دلالة على الجوع وشدته الذي أصاب الذئب.
وقوله:
فعبت غشاشاً ثم مرت كأنها مع الصبح ركب من أحاظة مجفل
فالحال " غشاشاً" أي على عجلة: أي أن لأفواج من أسراب القطا تشرب على عجل ثم تطير في جماعات.
وقوله:
وأصبح عنى بالغميصاء جالساً
"فجالساً" حال، والجلس اسم لنجد يقال: جلس الرجل إذا أتى نجداً فهو جالس".
[22]
المبحث الرابع
التركيب الوصفي في العطف ودلالته في اللامية
في الأساليب المركبة ترد أدوات العطف بشكل مختلف نسبياً ‘ن ورودها في الربط بين المفردات، وتقوم بعض تلك الأدوات بأدوار وظيفية لا تقوم بها عندما تربط بين العناصر فقط، وتتفاوت في الوقت نفسه مجالات استخدام كل من أدوات العطف في فترات اللغة المختلفة.
وهناك العديد من أدوات العطف المركبة مثل:الواو، الفاء، أو، ثم، بل، لكن".
[23]
ومن المعروف أن هذه الأدوات لها دلالات مختلفة كل واحدة عن الأخرى وسأعرض عن طريق الإيجاز أمثلة لهذه الدلالات التي وردت في لامية العرب للشنفرى.
ومن الواضح أن حرف الواو هو الأكثر وروداً في اللامية يليه الفاء ثم ثم وأخيراً الفاء ولم ترد "بل" ولا "لكن". وكان العطف هو أكثر التراكيب وروداً في اللامية، حيث ورد ستة وثلاثين مرة، ومن أمثلته:
يقول الشنفرى:
وشدت لطيات مطايا وأرحل
فعطف الأرحل على المطايا وفي التركيب دلالة على الهمة والنشاط وكامل الاستعداد للرحيل وفيه " دلالة على التجهز للسير فإن شد المطايا والرواحل لتدل على المسير ذاته وغير خاف أن كل مطية تشد التي تليها في القافلة عند السير.
وقوله: " وأرقط زهلول وعرفاء جيأل " وهذا التعدد في المعطوفات فيه دلالة على ألفة الشنفرى للحيوانات وغناه عن البشر بهم وفيه تفصيل بعد إجمال.
وقوله: فؤاد مشيع وأبيض إصليت وصفراء عيطل
وفي هذا التركيب تفصيل بعد إجمال حيث قال في صدر هذا البيت ثلاثة أصحاب ثم بدأ يفصل ويعطف واحداً على واحد.
وكأن الشاعر في هذا التعدد والعطف يشعر بالإستيحاش لفقده بني أمه، وإذاً فالشاعر في تحوله عنهم ليس بالقالي لهم لأن في طبعه مجرد المزاجية، أولأفه عاق لأهله، إنه يستوحش لفقدهم وما يسليه عندهم إلا هذه الثلاثة، ولاخفاء بجمال الثلاثة من الأصحاب الجدد.
وقوله في رصف السهم إذا خرج عن القوس: " ترن وتعول" فإذا زل السهم عن هذه القوس فإنها أي القوس تصوت وكأنها المرزأة العجلى تبكي وتنتحب، فالشاعر عطف النحيب على البكاء لبيان الشدة والقوة ومن المعروف أن النحيب أشد من البكاء.
ومن عطفه بالفاء قوله:
فلما لواه القوت من حيث أمه دعا فأجابته نظائر نحل
وعطفه بالفاء في قوله: فأجابته، تدل على السرعة في التلبية فبمجرد أن دعاه، أجاب دون تباطؤ.
ومن عطفه ثم المفيدة للتراخي قوله:
شكا وشكت ثم ارعوى بعد وارعوت
أي أن الذئاب عندما لم تجد حيلة في الوصول إلى الزاد تثبت هذه الذئاب الشكوى من الجوع بعضها بعضاً في حركاتها ولغتها ثم بعد فترة تجملت بالصبر بعد أن كانت الشكوى من غير مردود، وكأن هناك فترة زمنية حاولت الذئاب أن تكون شكوتها بفائدة ولما لم تجد فائدة صبرت، ولذا أحسن الشاعر في تركيب العطف بثم".
[24]
المبحث الخامس
التركيب الوصفي في وحدات الإضافة ودلالتها في اللامية
تعد الإضافة إحدى الوسائل التركيبية المميزة في اللغة العربية، والشائعة نصوصها من مختلف الفترات.
ويؤدي هذا التركيب بعض الوظائف الدلالة الهامة، أهمها وأكثرها استخداماً دلالة الملكية أو التبعية بين عنصري التركيب لكن الروابط المنطقية بين هذين العنصرين تزداد قوة في بعض أنواعها في أنواع أخرى حتى وإن تماثلت التراكيب في الشكل.
والإضافة لها فوائد في التركيب حيث يكسب العنصر الأول التعريف أو التخصيص من العنصر الثاني". [25] وقد تكررت الإضافة في اللامية تسع عشرة مرة. وفيما يلي سأورد أمثلة للإضافة في لامية العرب للشنفرى موضحاً مدى دلالتها لتأدية المعنى المراد.
يقول الشنفرى: " إذا عرضت أولى الطرائد أبسل "
فالمعنى المراد من الإضافة هنا كما يقول أبو العباس المبرد:
إذا لقيتني أوائل الخيل التي تريد طردي، وقتالي امتنعت لشجاعتي، ويقول الزمخشري: المراد بالطرائد ههنا الفرسان التي تطرد يريد: إنه إذا عرض من يطرد – كان منا أم من غيرنا – كنت أشد بسالة منهم "
– ومن الإضافة قوله: إذا أجشع القوم أعجل
فالجملة الاسمية من " أجشع القوم " في موضع جر بالإضافة والتقدير لم أكن بأعجلهم وقت عجلة الجشع.
وفي التركيب الإضافي دلالة على ندرة وقلة من لا يجشع فهو يقول: أجشع القوم، وهم كثر، وفيه دلالة على عفته وآنفته.
– ومن الإضافة قوله: " ثلاثة أصحاب"
والمضاف والمضاف إليه نكرتين وهنا اكسب المضاف التخصيص على غرار قولك: غلام امرأة. وكأن الشاعر أراد في هذا التركيب أن يحدد الأصحاب الثلاثة ويخصصهم ولا سواهم وهم: فؤاد، مشيع، وأبيض إصليت، وصفراء عيطل.
– ومن الإضافة قول الشنفرى واصفاً مدى صبره على الجوع:
" أديم مطال الجوع حتى أميته "
فالمطال مأخوذ من المماطلة وهي امتداد المدة. ودلالة الإضافة هنا أنه يماطل الجوع وشعوره به حتى تموت شهيته وهو أمر يعرفه من يصوم عن الطعام، وفي هذا المعنى قوله: " وأستف ترب الأرض" فالمضاف الأرض والمضاف إليه التراب، واستفاف التراب عند الجوع أمر فيه بعض عوض لاسيما إذا كان التراب ذا نبات وعضويات وهو أمر سيضطر إليه الشاعر إذا كان القوت سيلحق به منة ومعرة.
– ومن الإضافة قوله: مهلهلة شيب الوجوه
فجعل المضاف إليه: الوجوه شيباً وقد أحسن الشاعر في هذا التركيب حيث أن شدة الجوع والتعب يظهر على الوجه أولاً في جميع المخلوقات، ففي هذا التركيب الإضافي بيان بصورة الجوع التي تنعكس وترتسم على أبدان هذه الذئاب الضوامر" .[[ في النقد الجمالي ص199 بتصرف وما بعدها]
الخاتمة
الحمد لله الذي بفضله تتم الصالحات، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ،،،
فبفضل من الله تعالى قد أنهيت هذا البحث، ولقد توصلت من خلال هذا البحث إلى معرفة بعض الأمور في هذا الموضوع ومنها: أن لامية الشنفرى ملئت بالتراكيب الوصفية في العطف أكثر من أي باب آخر وخاصة العطف بالواو بخلاف العطف بـ"أم" و "لكن" و"بل" اللواتي لم يردن إلا مرة أو مرتين هذا مع "أم" أما "لكن" و"بل" لم يردن في القصيدة. يليها في ذلك تراكيب الصفة والموصوف حيث ورد التركيب واحد وعشرين مرة. ثم يليه التركيب في الإضافة حيث ورد تسع عشرة مرة.و يأتي أخيراً تركيب الحال حيث تكرر أربع عشرة مرة.
ومن خلال هذا البحث تتضح براعة تراكيب الشنفرى لإخراج صوراً تكاد تكون حسية يتلمسها القارئ.
وفي ختام هذا العمل أرجو أن أكون قد أصبت وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
فهرس المراجع
- الشنفرى شاعر الصحراء الأبي د/ محمود حسن أبو ناجي مؤسسة علوم القرآن الطبعة الثالثة1404هـ- 1984م – دمشق.
- أسس اللغة العربية الفصحى- معيارية وصفية د/ فالح بن شبيب العجمي 2001 الرياض.
- شرح شعر الشنفرى الأزدي لمحاسن بن إسماعيل الحلبي تحقيق د/ خالد عبد الرؤوف الجبر 2004 الأردن.
- شرح لامية العرب لأبي البقاء عبد الله بن حسين العكبري تحقيق د/ محمد خير الحلواني – دار الآفاق – بيروت – لبنان.
- العمدة، لعلي بن رشيق القيرواني، تحقيق\محمد محيي الدين عبدالحميد، ص 2\294، دار الجيل، لبنان – بيروت.
- في التذوق الأسلوبي واللغوي للامية العرب للشنفرى دراسة نقدية إبداعية د/ محمد علي أبوحمزة. الطبعة الأولى1418هـ عمان.
- في النقد الجمالي رؤية في الشعر الجاهلي د/ أحمد محمود خليل – دار الفكر – دمشق.
- في العبور الحضاري للامية العرب للشنفرى د/ محمد علي أبو حمدة 1414هـ دار عمار- عمان.
- في أنماط النصوص الأجنبية الفنية والتأويل، ملتقى غازي 2001م سراس. تونس.
- لامية العرب للشنفرى د/ عبد الحليم حنفي. مكتبة الآداب ومطبعتها – القاهرة.
- نظرات في الشعر العربي ، د/ أحمد نفادي 1987 مكتبة المطبعة الأزهرية القاهرة.
- نقد الشعر، لقدامة بن جعفر،تحقيق د\محمد عبدالمنعم خفاجي،دار الكتب العلمية، لبنان- بيروت .