مصر وأوهام التقسيم
مع اكتمال ستة أشهر على الثورة المصرية وإنشغال الثوار ومناصريهم من السياسيين والمفكرين والمثقفين المصريين فى ائتلافاتهم المختلفة بمشاكل وتحديات تأسيس مصر الجديدة الديمقراطية الحرة لأول مرة فى التاريخ المصرى الطويل، وما يصاحب هذا من فوضى ومحاولات وإخفاقات واضطرابات وأخطاء كلها طبيعية فى تقديري رغم تخوف الكثيرين منها، ومع اهتمام النخب السياسية والفكرية المصرية التقليدية القديمة والشبابية الجديدة باستكشاف أفضل الصور والسبل لتأسيس مصر الجديدة هذه بكل ما تحمله لنا من وعود مثيرة بمستقبل مصرى غير مسبوق، تتصاعد من على أطراف هذا المشهد التأسيسى الباهر أصوات نشاز داخل مصر وخارجها من فئات تقيم خارج تاريخ وجغرافية اللحظة المصرية المصيرية الراهنة لجماعات سلفية الفكر والرؤية والخطاب والممارسة بعضها إسلامية وبعضها مسيحية من بعض الأقباط ، من المهم تفحص فكر هذه الجماعات التى تشوش أصواتها العالية على صوت الثورة المصرية وتشوه بظلالها المظلمة وجه الثورة المضئ الناصع.
أبدأ بالسلفيين الأقباط الذين طالعتنا جريدة الوفد المصرية فى أحد أعداد شهر يوليو الحالى بخبر إعلان قيام "دولة الأقباط المستقلة فى مصر" وكان ذلك فى نفس يوم الإعلان الرسمى لقيام دولة جنوب السودان بعد انفصاله عن الشمال، وذكرت الصحيفة أنه قد تم "انتخاب" بعض الأشخاص زعماء لهذه الدولة القبطية وذكرت أربعة أسماء منهم المستشار موريس صادق، الذى أسقطت الحكومة المصرية عنه الجنسية المصرية قبلها ببضعة أسابيع، وقد اعتاد إرسال مئات الرسائل الإلكترونية على مدى حوالى العامين تحمل "أخبارا" و "أفكارا" وصورا وآراء مليئة بالتناقضات والاتهامات والشتائم والبذاءات الفكرية والعنصرية ضد المسلمين بشكل عام وضد الإسلام نفسه، ثم انضم إلى القس الأمريكي المتطرف الذى هدد بحرق نسخ من القرآن فى مكان عام وراح يسير معه فى مظاهرات فى بعض المدن الأمريكية واصفا نفسه – دون خجل - بأنه من "زعماء الأقباط" دون أن ينتخبه أو يبايعه أحد على هذه الزعامة التى منحها لنفسه! ثم راح فى رسائله يصب المديح والثناء على دولة إسرائيل وزعمائها وسياساتها بشكل غريب إذ ما علاقة إسرائيل بالقضية القبطية التى يقول انه يدافع عنها؟ ومن دلائل تخبط فكره ومواقفه أنه كان قبل الثورة دائم الهجوم والشتيمة للرئيس مبارك ونظامه، لكنه فى الأيام الأولى للثورة وبعد أن ترددت الحكومة الأمريكية ومعها الحكومة الإسرائيلية فى موقفها من مبارك وراحت بعض الأصوات الإسرائيلية تطالب بمساندته لأنه حليف إسرائيل الاستراتيجي إنقلب موقف صادق فجأة وراح فى رسائله يساند مبارك ويهاجم الثوار! إلى أن خلع مبارك فلم يعد مجديا مساندته بالطبع.
وكان إعلان قيام الدولة القبطية الوهمية آخر المواقف المتضاربة والمشوهة التى تحفل بها رسائله التى تحمل اسم الجمعية الوطنية القبطية الامريكية وهي المؤسسة التي أسسها ، و قبل هذا وبعده تشير رسائله أحيانا إلى تقسيم مصر وأحيانا إلى طلب الحماية الدولية لأقباط مصر، وأحيانا إلى طلب فرض الوصاية الدولية على مصر، وغيرها من خليط مشوه يخلط بين كلمات الحماية والوصاية والتقسيم والإستقلال فى نوع من الركاكة الفكرية البالغة والفرقعة الإعلامية الفجة، بجانب التحريض الطائفى العنصرى البغيض ضد المسلمين بشكل عام- والشتائم ضد مقدساتهم بما لا يليق من أى إنسان ولا أى مسيحى، فهو يعتبر أن "المسلمين سفاكين لدماء المسيحيين" –"هكذا على الاطلاق"- وهذا الخطاب لا يختلف عن خطاب المتطرفين المسلمين الذين يقولون بنفس الأسلوب العنصرى أن المسيحيين سفاكين لدماء المسلمين، وكثيرا ما يعود فى خطابه إلى عصر عمرو بن العاص ويقول أن مصر محتلة من جانب المسلمين حتى اليوم، وهذا هو الفكر السلفى الأصولى الذى يصر دائما على العودة إلى الماضى السحيق مقيما فى أجوائه وأزمنته محاولا ان يلوى عنق التاريخ مغيرا مساره لكى يجئ على هوى أوهامه المتعصبة طائفيا أو دينيا إنها طبيعة المزاج الأصولى والنزعة السلفية لاتختلف من دين لآخر لأنها ظاهرة إنسانية أساسا لذلك تتشابه مواقف وأفكار ولغة الأصوليين من كل دين وتمتلآ كلماتهم دائما بالتشنجات والاتهامات والإدانات الشمولية العنصرية أو الدينية للأخر المختلف ، فيما تعيد إنتاج معارك ومآسى الماضى الذى تقيم فيه وجدانيا وفكريا وتجدها مستعدة للدخول فى حروب دموية من أجله.
هذا الخطاب المتطرف لا يحمله فى الواقع سوى عدد قليل جدا من العاملين – أو الحاشرين لأنفسهم – فى مجال القضية القبطية وحقوق الإنسان والمواطنة سواء فى مصر أو خارجها، ولكن هذه القلة تستحوذ على فضاء أعلامى كبير لأن الإعلام بطبعه يبحث عن الإثارة - وأحيانا يتعمد البعض منح هذه الأصوات النشاز مساحة أكبر بكثير من حجمها لتشويه صورة الأقباط بشكل عام بنسب ذلك الخطاب المتطرف إليهم كلهم، مما يثير كراهية الكثيرين من المسلمين ردا عليه، فهذا الخطاب الزاعق الأهوج يسبب للأقباط أضرارا كبيرة فيما يدعى الدفاع عن قضيتهم, وهو بذلك مثل ذلك الدب الذى أراد قتل الذبابة على وجه صديقه الإنسان فقذفها بصخرة قتلتها وقتلته معها,
دعاوى تقسيم مصر أو طلب الوصاية الدولية عليها تفتقر إلى المعرفة العميقة بطبيعة مصر وتاريخها وشخصيتها ودورها فى المنطقة وعلاقاتها الدولية، وحتى إذا افترضنا جدلا أنها نجحت مثلا فى فرض الوصاية أو الحماية بقرار دولى فهل يحمى هذا الاقباط داخل مصر؟ وكيف؟ لقد احتلت العراق من قبل الجيش الأمريكي بكل عتاده وترساناته وأسلحته الشاملة وقنابله الذكية وآلياته المدربة على الترويع والتدمير ومع ذلك لم يستطيعوا حماية الأقلية المسيحية فى العراق التي قاربت علي الإنقراض، فأنت لا تستطيع أن تفرض حماية من خارج أو من فوق – وإنما تكمن الحماية الحقيقية فى العلاقة القوية الطبيعية بين أبناء الوطن الواحد، عن طريق نبذ الخطاب المتطرف الكاره للآخر، وتعميق مفاهيم المواطنة والمشاركة فى دولة مدنية ديمقراطية يسود فيها القانون على الجميع سواسية، وكان قادة الأقباط من المدنيين ورجال الدين على السواء على وعى بهذه الحقيقة ولذلك إلتحموا دائما مع أخوتهم المسلمين فى كافة الملاحم الوطنية على مدى تاريخ مصر، من ثورة عرابى إلى ثورة سعد زغلول إلى ثورة 23 يوليو وحروبها فى 56 و67، و73 حيث شاركوا فى انتصار العبور العظيم، وأخيرا فى ثورة يناير الباهرة حيث شاهدنا بأعيننا كيف تشابكت الأيادى الممهورة بوشم الصليب معا فى دائرة لحماية ظهور إخوانهم المسلمين فى صلاتهم، وشاهدنا الشيخ والقسيس جنبا إلى جنب يحملان المصحف والصليب، وفى هذا الإخاء وهذه المشاركة الباهرة وحدها سيجد كل مصرى الحماية فى حضن أخيه المصرى.
يحمل لنا التاريخ الحديث قصة بالغة الدلالة هنا - عندما خشيت روسيا القيصرية من نفوذ محمد علي الذى يمنع تغلغل نفوذها فى الشرق، فخططت أن تستعين بالأقليات فى المنطقة، فأرسلت مبعوثا ليفاوض بطريرك الأقباط – البابا بطرس الجاولى - عارضا عليه وضع الأقباط تحت حماية قيصر روسيا العظيم، فسأله البابا – وهل قيصركم يحيا إلى الأبد؟ فأجاب المبعوث الروسى: لا يا سيدى إنه يموت مثل كل البشر، فقال البابا: ولماذا إذن أطلب حماية ملك يموت، بينما نحن فى حماية الملك الإله الذى لا يموت!
لهذا كله علينا رفض خطاب ودعاوى التقسيم والوصاية والحماية وغيرها ، ورفض الاستماع إلى الأصوات المتطرفة التى تنادى بها.
فيما نحن نشجب الفكر السلفى القبطى - لابد أن يدرك الجميع أن هذا الفكر، بل وما سبقه من الهيئات القبطية المختلفة التى تعمل فى المهجر والتى كانت باكورتها هى "الهيئة القبطية" بجيرسى سيتى التى أسسها الدكتور شوقى كراس عام 1972، جاءت كلها كرد فعل طبيعى لصعود تيار الإسلام السياسي المتشدد فى مصر - والذى ما أن أعطاه السادات الضوء الأخضر مع بداية حكمه عام 71 حتى بدأ أعماله بحادثة حرق كنيسة الخانكة بالقاهرة عام 72، وعلى إثر هذا مباشرة تكونت "الهيئة القبطية" ثم توالت بعدها الهيئات القبطية بالمهجر مع تصاعد التطرف الدينى للجماعات الإسلامية فى مصر التى مارست العنف ضد الاقباط فى أشكال مختلفة منها حرق الكنائس ونهب المحلات والقتل الجماعي والعشوائى وخطف البنات القاصرات، وهى أعمال مازلنا نراها إلى اليوم فى مصر، قبل الثورة وبعدها. وأعطتنا أسماء أصبحت علامات مظلمة فى مسيرة المواطنة المصرية بدءا من الخانكة مرورا بالزاوية الحمراء والكشح إلى نجع حمادى وكنيسة القديسين إلى الجيزة قبل الثورة، ثم أطفيح وإمبابة بعدها، وغيرها المئات من الأحداث الأقل شهرة، والذى غذى ويغذى أعمال العنف هذه هو خطاب إسلامى متطرف كاره للأخر وجد جذوره فى فكر الإخوان المسلمين الذى إزداد مع إنشقاق جماعات أكثر تطرفا عنها مثل الجماعات الإسلامية والتكفير والهجرة، وصولا إلى التيار السلفى الذى تصاعد خطابه بعد الثورة بشكل لافت.
وكان نظام الرئيس المخلوع يفتح أبواب إعلامه الرسمى لمن يغذون خطاب الكراهية والتحريض ضد الأقباط، فترى الأهرام ينشر باستفاضة للدكتور زغلول النجار مقالات تحريضية بغيضة تصف الكتاب المقدس بالكتاب "المكدس" وتنشر "الأخبار" سلسلة للدكتور محمد عمارة الذى ألف كتابا وزعته له إدارة الأزهر كملحق مجانى مع مجلتها نشر فيه تصريحا للشيخ الغزالي يهدر فيه دم الأقباط هكذا بالجملة، دون أن يعقب بأن هذا إرهاب فكرى ودموى وأعتذر بعد افتضاح الأمر بأن هذا ليس كلامه هو. هذه أمثلة بسيطة لما تعرض ويتعرض له الأقباط على مدى أربعين عاما من حوادث الإرهاب الفكرى والفعلى، ولذلك فدعاوى التقسيم والوصاية التى نسمعها – ونشجبها - اليوم لم تأت من فراغ، وإنما جاءت كرد فعل لأربعين عاما - أى جيلين كاملين من المناخ المتردى الكاره للأقباط الطارد لهم من ساحة المواطنة، والعلاج لا يكون بسحب الجنسية من هذا أو ذاك، ولكن يكون العلاج بتفعيل القانون ومحاسبة الجناة والمحرضين على السواء – وهو ما لم يفعله نظام مبارك ولا المجلس العسكرى بعد الثورة إلى اليوم.
إننى حين أسمى التيارات الإسلامية المختلفة فى مصر اليوم بالسلفية أعرف أن السلفية مذهب محدد له معتقداته الخاصة، ولكنى أستخدم هذه الصفة بشكل عام، وعدم التفرقة هنا مقصود لأننى أعتقد أن هذه التيارات وإن اختلفت فى بعض تفاصيل الشعائر والعبادات - فأنها تتفق فى إنها جميعها "سلفية" التوجه بمعنى أن لديها رؤية دينية متشددة رجعية فى مجملها ترجع بالإنسان إلى عصور "ذهبية" سحيقة تستلهمها أفكارها وأفعالها الحالية ولذلك تسقط فى مشكلة عدم القدرة على مواكبة العصر، وهي في هذا تختلف عن الاسلام المصري التقليدي الوسطي الذي يرفض التطرف ويحب الحياة ويقبل الآخر ، فقد استوردت أفكار الوهابية السعودية المتشددة، كما أنها تشترك فى خطاب كاره للآخر المختلف عقائديا وكاره لحرية المرأة والفكر والفنون ، مع الانتماء لفكرة الأمة على حساب الوطن مما يجعل بعض السلفيين يرفعون العلم السعودى فى مصر وهم يتظاهرون ضد تعيين محافظ مصري قبطي!
هذه الرؤية الدينية المتشددة الرجعية التى ترى بها هذه الجماعات كل شئ سواء الوطن أو الإنسان أو الحياة أو السياسة أو المجتمع هى التى تخلق الردات الحضارية فى مصر والبلاد العربية اليوم- وهى رؤية أثبتت فشلها فى كل شئ له علاقة بالسياسة وبناء الأوطان- ولم تفلح سوى فى تقديم بعض الخدمات الاجتماعية لأفرادها فى الأماكن الشعبية التى أهملها نظام مبارك, ولكن وجودها وطموحاتها السياسية كانت السبب فى وأد كافة محاولات النهضة فى مصر على مدى قرن كامل- وها هى تعاود الكرة الأن بعد الثورة فى محاولة لتحقيق غايتها النهائية وهى إعادة الخلافة الإسلامية – وقد صرح مرشد الأخوان السابق بأن "طز فى مصر" وأنه يرضى بحاكم مسلم ماليزى الذى هو أقرب إليه من القبطى المصرى! ومع ذلك لم يسقطوا عنه الجنسية المصرية!
هذه هى أفكار ورؤية الإسلاميين سواء إخوان أو سلفيين- وهى رؤية ماضوية بائسة لا تملك حلولا سياسية ولا اجتماعية سوى المزيد من جرعات الوعظ والإرشاد وفتاوى الحلال والحرام وكأن المجتمع المصري يحتاج إلي مزيد من التدين بينما هو أكثر مجتمعات ألأرض انغماسا في التدين اليوم دون أن ينقذه هذا من السقوط إلي قاع الأمم في كافة المقاييس الحضارية الدولية!
وأملنا فى ثورة مصر أن تنجح فى نبذ الفكر الطائفى الأصولى السلفى المتشدد الذى يتصاعد على الجانبيين من تيار الاسلاميين ومن بعض الأصوات القبطية اليوم- والخلاص الوحيد للمسلمين والأقباط هو في التحرر من عبوديتهم للخطاب الديني المتطرف والإلتحام معا في عمل سياسي جاد ونظيف يسعي إلي تحديث مصر ووضعها على طريق التقدم الحضارى الذى سبقتنا إليه دول الأرض وهو طريق الفكر العلمى العقلانى والديمقراطية السليمة ودولة القانون وحقوق الإنسان بعيداً عن أوهام التقسيم والانعزالية الدينية الضيقة والسلفية الفكرية سواء كانت إسلامية أو قبطية.