السبت ٢٦ نيسان (أبريل) ٢٠٢٥
بقلم حسن لمين

متخيّل المنفى في الرواية العربية المعاصرة

يشكل المنفى، بما يحمله من دلالات مكانية ونفسية واجتماعية، أحد الثيمات المركزية التي استأثرت باهتمام الأدب العربي المعاصر، ولا سيما الرواية. ففي ظل التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية العميقة التي شهدتها المنطقة العربية على مدار العقود الأخيرة، برزت أصوات روائية تسعى إلى تفكيك متخيّل المنفى واستكشاف تأثيراته المعقدة على الذات العربية وهويتها. يتجاوز المنفى في هذا السياق مجرد الابتعاد القسري عن الوطن ليصبح فضاءً خصباً لتجليات الاغتراب، وإعادة تشكيل الهوية، واستنطاق الذاكرة المثقلة بالحنين والفقد. يسعى هذا المقال إلى تحليل نقدي لتمثلات المنفى في نماذج مختارة من الرواية العربية المعاصرة، مع التركيز على كيفية تشكيل هذا المتخيّل لعلاقة الفرد بذاته وبالآخر، وتأثيره على إدراكه للوطن والهوية.

حين يصير الوطن منفى: تمثلات الذات العائدة

في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" (1966)، يصوغ الطيب صالح تجربة الاغتراب والعودة من خلال شخصية الراوي العائد إلى قريته السودانية بعد سبع سنوات قضاها في أوروبا. لكن هذه العودة، على الرغم من بساطتها الشكلية، تكشف عن تصدع في علاقة الذات بالوطن، وعن تحولات عميقة في الوعي والهُوية، حيث لم يعد الانتماء ممكنًا بمعناه التقليدي. يقول الراوي في مفتتح الرواية:

"جئت أبحث عن الطمأنينة، عن نفسي، عن الجذور، عن الماضي... فجئت فوجدتني غريبًا. كل شيء قد تغيّر أو أنا الذي تغيّرت" (ص. 8).

يقف الراوي وجهاً لوجه أمام تحوّلات القرية، وأمام شخصية مصطفى سعيد، رمز الاغتراب والازدواجية، الذي لا يمثل فقط "الآخر فينا"، بل ذلك الذي اخترق المركز الأوروبي وغاص في أعماقه وعاد منه مشوهًا ومحطَّمًا. يعترف مصطفى سعيد في إحدى اللحظات الحاسمة من الرواية:

"أنا لا شيء. أنا مجرد وهم صنعه الاستعمار... أنا سلاحه الذي طعن به نفسه" (ص. 41).

يمثل مصطفى سعيد، في مقابل الراوي، نموذجا للذات المنفية لا جسدًا، بل نفسيًّا وثقافيًّا، إذ يعيش صراعًا داخليًا مريرًا بين الشرق والغرب، بين الماضي والحاضر، بين الرغبة في الانتماء إلى الهوية السودانية، وبين انجذابه القهري إلى الغرب بكل تناقضاته. وهذا ما يفسّر قوله الموجع:

"لقد كنت أكذب على نفسي حين ظننت أنني أستطيع أن أدفن الماضي تحت قدميَّ" (ص. 61).

وفي لحظة متأخرة، يعبّر الراوي عن ذلك الصدع الذي صار يعيشه هو نفسه، بعد أن حاول مرارًا أن يتماهى مع قريته ومسقط رأسه، لكنه يكتشف أنه عاد "محمّلاً" بأسئلة لا مكان لها في محيطه، فيقول:

"أشعر أنني مزيج من شيئين، شيء قديم وشيء جديد، ولا أدري أيّهما أنا!" (ص. 74).

وهكذا تتحول العودة في الرواية إلى شكل آخر من الاغتراب، حيث لا يجد العائد وطنًا يحتضنه كما تركه، ولا هو قادر على التماهي مع حياة ما قبل الرحيل. وفي ذلك تكمن المفارقة التراجيدية: أن العودة لا تمحو المنفى، بل تكرّسه.
الوطن المتخيل والذاكرة بين الملاذ والمأزق

في المنجز السردي " رأيت رام الله" (1997) لمريد البرغوثي، يُستدعى الوطن في المنفى ليس كمكان واقعي، بل كمتخيّل يحمل دلالات الحنين والانتماء المفقود. يعود البرغوثي إلى رام الله بعد ثلاثين عاماً من الغياب، ليجد أن الوطن الذي عاش في ذاكرته لا يطابق الواقع، مما يولد خيبة أمل ويعمّق من شعوره بالغربة. هذا التباين بين الذاكرة والواقع يسلط الضوء على تعقيدات الهوية الفلسطينية في ظل الاحتلال والشتات.​

في سياق تمثيل الذاكرة والمنفى، تقدم سيرة رأيت رام الله لمريد البرغوثي نموذجًا سرديًا فريدًا لتجربة المنفى الفلسطيني والعودة المؤلمة إلى الوطن بعد ثلاثة عقود من الغياب القسري. يعيد البرغوثي في نصه بناء صورة الوطن لا بوصفه مكانًا جغرافيًا، بل بوصفه نسيجًا من التفاصيل اليومية التي تبددت تحت وطأة الاحتلال والشتات. يقول بأسى وهو يستعيد ذاكرة الطفولة والمدينة:

"أخذوا ذلك الدكان الذي كنت أسافر إليه خصيصاً من رام الله لشراء حذاء من الجلد الممتاز، وأعود للعائلة بفطائر من زلاطيمو وكنافة من حلويات جعفر... لن أرى قدس السماء، ولن أرى قدس حبال الغسيل؛ لأن إسرائيل متذرعة بالسماء احتلت الأرض"،(ص 26).

هذا المشهد يلخص بمرارة الخسارة الرمزية التي يعيشها المنفي عند اصطدامه بواقع مغاير لذاكرته، حيث يتحول الوطن إلى صورة مشوهة يلفّها الحنين والألم. ويظهر الجسر الذي يعبره الكاتب – والذي يختلف الجميع حتى على اسمه – كمجاز للمنفى ذاته: مكان عبور، لا عودة حقيقية. فالمنفى، في هذا السياق، هو أيضاً شرط الهوية الفلسطينيّة، كما في قول البرغوثي:

"كان عليّ أن أكون فلسطينيًا خارج فلسطين، لأعرف معنى أن أكون فلسطينيًا داخلها"، (ص11).

كما يظهر البُعد الوجداني من خلال استحضار شخصيات مثل غسان كنفاني وناجي العلي، لا كمجرد رموز نضالية، بل كبشر لهم حيواتهم وتفاصيلهم، وهو ما يُعمّق من بعد المنفى باعتباره اغترابًا عن العلاقات والوجوه المألوفة، وليس فقط عن الأرض.

تمثلات المنفى في سياقات سياسية واجتماعية محددة

في قلب رواية "باب الشمس" (1998) لإلياس خوري، لا يظهر المنفى كحالة جغرافية قسرية فقط، بل يتحول إلى تجربة وجودية تمس جوهر الإنسان الفلسطيني في عمق كيانه. لا تقتصر الرواية على تصوير الشتات كنتيجة مباشرة للنكبة عام 1948، بل تتجاوز ذلك إلى مساءلة الواقع الذي صار فيه المخيم نفسه فضاءً تتكوَّن فيه الذاكرة الجمعية وتُعاد فيه صياغة الهوية الفلسطينية.

يقول إلياس خوري على لسان الطبيب خليل:

"نحن لم نعد لاجئين، لقد أصبحنا المنفى نفسه. صار المخيم هو الوطن، وصارت الخيمة هي البيت، وصار الحلم بالعودة هو كل ما نملك" (ص. 128).

هذا القول يكثّف التحول الوجودي الذي يعيشه اللاجئ الفلسطيني: من فرد نُفي عن وطنه إلى كائن تجسّد فيه المنفى نفسه.

يتحول المخيم، في الرواية، من مكان إقامة مؤقت إلى وطن بديل، يحمل رغم قسوته رمزية الاستمرارية والهوية. إنه المسرح الذي تتلاقى فيه حكايات الماضي مع تحديات الحاضر، حيث تُورّث آلام النكبة جيلاً بعد جيل. كما يرد على لسان يونس، بطل الرواية:

"كانوا يقولون إننا سنعود غدًا، لكن الغد كان يكبر مثل كذبة. كنا نردد الحكايات كأنها صلوات، وننام على حلم لا نعرف إن كان كابوسًا أم خلاصًا" (ص. 214).

هذا القول يبرز كيف يتشكل وعي الجيل الجديد في ظل واقع المنفى، بين الحلم بالعودة وواقع الخيام التي التصقت بالأرواح.

النكبة، في هذا السياق، لم تكن فقط خسارة أرض، بل زلزالًا وجوديًا هزَّ الهوية الفلسطينية، ليصير المنفى امتدادًا لهذا الزلزال، وتجسيدًا لأزمة وجودية تتجاوز حدود الجغرافيا.

ولعل من أبلغ ما ورد على لسان الراوي خليل في وصفه لهذا التشابك بين الوجع والأمل:

"نحمل البلاد في ذاكرتنا، نخبئها في الحكايات، ونخاف أن تنساها ألسنتنا. نحن المنفى، وذاكرتنا هي جواز سفرنا الوحيد." (ص. 267).

بهذا التوصيف، يسلط إلياس خوري الضوء على كيف أن هذا المنفى الجماعي، رغم مأساته، لم يفتّ في عضد الفلسطينيين تمامًا، بل تحول إلى مصدر قوة كامنة، حيث تتشابك فيه الآلام والآمال، وتُعاد فيه صياغة الذات الجماعية في مواجهة التهجير والقمع.

إن هذا التصوير الوجودي العميق للمنفى في باب الشمس يجعل من الرواية نصًا مفصليًا في الأدب الفلسطيني والعربي الحديث، حيث يُعاد عبرها التفكير في معنى الوطن، والانتماء، والهوية.

يكشف تحليل الرواية العربية المعاصرة عن أن متخيّل المنفى ليس فقط مساحة جغرافية، بل هو بنية سردية معقدة تتشابك فيها تمثلات الهوية والاغتراب والحنين والمقاومة. فالشخصيات المنفية لا تكتفي برصد الآثار النفسية والاجتماعية للمنفى، بل تقدم أيضًا نقدًا عميقًا لبنى الوطن والسلطة والانتماء. من خلال تمثيلاتها الدقيقة لتجربة النفي، تفتح هذه الروايات أفقًا تأمليًا لفهم تحولات الهوية العربية في زمن العبور والهجرة، وتعيد مساءلة مفاهيم الوطن والآخر والانتماء ضمن عالم دائم التشكل.​

كاتب مغربي

الطيب صالح – موسم الهجرة إلى الشمال – دار العودة – بيروت - ط 13- 1981
مريد البرغوثي - رأيت رام الله- المركز الثقافي العربي- ط4 – 2011
إلياس خوري – باب الشمس – دار الآداب – بيروت – ط6 - 2010


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى