ما ذنب طفلي؟
لا تزال النائبات في هذه البقعة الجغرافية الملعونة حاضرة، تعيد نفسها في كل زمان فلا تعرف الملل أو اليأس! لقد شهد كاتب هذه السطور وقارئها حادثة عبد الله الرضيع بن الحسين مرات عديدة أكثر من أن تعد أو تحصى، وإن اختلفت الأسماء والأزمان، ففي الأمس البعيد حادثة الطفل الشهيد محمد الدرة، وفي الأمس القريب أطفال العراق وسورية وغزة، واليوم أطفال السودان.
ولعل أول ما يحضر إلى خاطر المرء حين يشهد حادثة قتل الأطفال سؤالاً واحداً يقض مضجعه ويؤرق جفنه: "ما ذنب هذا الطفل؟".
تقدم لنا صفحات التاريخ إجابة قاسية عن هذا السؤال، وذلك في الحادثة المؤلمة في كربلاء عندما حاصر جيش عمر بن سعد آل بيت النبي؛ الحسين وأهل بيته. حمل الحسين طفله الرضيع عبد الله وقال لهم: "إن كانت الحرب بيني وبينكم، فما ذنب هذا الطفل الرضيع أن تمنعوه الماء؟" فأجابه حرملة بسهم استقر في نحر الرضيع، فعاد به الحسين بخطوات مثقلة إلى الخيمة ودماء الطفل اختلطت بدموع أبيه!
واليوم، ونحن نرى صور الأطفال صرعى على أيدي آبائهم، أو ممزقة أوصالهم بين الركام، وصرخات آبائهم تهز أرجاء هذا الكون، ندرك أن التاريخ لا يعيد نفسه عبثاً، بل لأننا لم نتعلم منه. فما زال على هذه الأرض من يرى في الطفل عدواً محتملاً يجب وأده قبل أن يكبر، ولا تزال هذه المأساة تتكرر لأن الضمير الجمعي للإنسان لم يتطهر بعد من دنس الدم، ولم يتعلم أن الطفولة ليست طرفًا في صراع، بل هي الحياة نفسها.
يخبرنا علم النفس، أن الإنسان يألف التجربة عند تكرارها، فما أحقر ذلك الإنسان الذي اعتاد هذه المشاهد! ويخبرنا أيضاً أننا نتعاطف في هذه الحالات لأننا نتخيل أنفسنا مكان هؤلاء المعذبين فما تعاطفنا معهم إلا تعاطفاً مع أنفسنا، ولكن هذا التعاطف ليس إلا لحظة عابرة من الحزن سرعان ما يبتلعها صخب الحياة اليومية.
لقد أصبح الدم مشهداً مألوفاً على الشاشات، وأضحت صرخات الأطفال المكتومة صوتاً اعتيادياً كالموسيقى التصويرية للأخبار، فلا تهز في أعماقنا سوى بقايا ضميرٍ أنهكه التكرار. وهكذا، نمضي في صمتٍ ثقيل، نكتفي بالبكاء أمام الشاشات، أو بتعليقٍ عابرٍ على وسائل التواصل، كأننا نؤدي طقساً رمزياً لتسكين وخز الضمير.
لست أطلب من الحمقى المتناحرين في الحروب أن يتسموا بالأخلاق فمعظم من يحمل البنادق لا يعرف معنى الأخلاق، كما أن الحرب تلغي الأخلاق والأعراف والقوانين وتجعل المشاركين فيها آلات لا تعرف إلا القتل والتدمير. ولكن، كيف يدعي البشر أنهم قد أوجدوا الحضارة؟ إنهم يحسبون الحضارة في المباني الشاهقة والتقدم التكنولوجي والمراكز البحثية والمعاهدات الدولية، وما هذه المظاهر إلا وجهاً زائفاً لحضارة هشة وصلت إلى القمر ولكنها عجزت عن حماية الأطفال من بطش الحرب والفقر!
إن أطفال غزة الممزقة أوصالهم، وأطفال السودان الصرعى بين أذرع أمهاتهم، ليسوا إلا تكراراً لحادثة عبد الله الرضيع التي نشهدها كل يوم، وجميعهم وجه واحد لحقيقة واحدة؛ أن القسوة البشرية لا حدود لها، وأن الإنسانية لم تتجاوز امتحانها الأول بعد، إذ لم تفرغ كنانة حرملة من السهام منذ حادثة كربلاء، إلى يومنا هذا!
