
«لو كنت قصيدة» لبراءة الأيوبي

تنوعت نصوص "لو كنت قصيدة" للكاتبة اللبنانية براءة الأيوبي بين ما يمكن تسميته بالنصوص النثرية التي تحمل روح الشعر، حيث اللغة المكثفة الغنية بالصور والاستعارات، والإيقاع الداخلي والبُعد التأملي الذي تناول موضوعات فلسفية ووجدانية ووجودية بطريقة موحية، مع القدرة على تجاوز السرد إذ لا تروي النصوص قصة، بل تقوم على المشهدية والمقاطع الشعورية.
وتضمن الكتاب الصادر عن الآن ناشرون وموزعون في الأردن (2025)، أكثر من ثمانين نصاً، دارت حول هواجس الكتابة والبحث عن الذات وحالات العشق وجمال المطر وموجودات الكون: "بعدما اختبرتُ الحياةَ عمراً، صرتُ أكثر يقيناً أنّ في الكون مكاناً لمشاعرَ لا تُتقنها قلوب البشر.. أن خبيئات من نور، تحتويها التربة وجذوع الشجر.. أنّ في الأزهار نبضاً، وبين النسمات همسات حلمٍ... وأكثر.. أن تتشابكَ روحُك مع صفاء كونٍ، وبساطةِ مشهدٍ بألوان الطيف.. فتلك هي السكينة".
تلعب اللغة في نصوص براءة الأيوبي دوراً جوهريا يتجاوز التوصيل والتقرير، فهي ليست مجرد جسر نحو المعلومة أو الحدث، بل هي الحدث في حد ذاته، إذ تختار الكاتبة الكلمات بعناية لتخلق إيقاعاً داخلياً لا يعتمد على الوزن التقليدي، بل على التناغم والتكرار والإيحاء، والاقتصاد في التعبير، والغنى بالدلالات، إذ لا تقول كل شيء، بل تفتح الأبواب أمام القارئ ليكمل المعنى ويدلي بتأويله الخاص، ومن هنا تنبع قوتها، إنها لغة مشحونة بالعاطفة، تُولد من الإحساس وتلامس القلب: "حينما التقيتُها عند مفترق الكلام... لم تكن كسابق عهدي بها.. بدَت أكثر توهّجاً، وفي ذروة الحياة... صارت تفيض دهشةً، وألقاً.. وتنسكب لهفةً ورجاء. التقطَت حيرتي وشرودي... فبادرَت بكشف ما ظننتُه خبيئةً صعبةَ المنال! قالت، وقطرات الندى تتصبّب من رحيق عينَيها: (صديقتكِ اليوم فراشة). أشعر بقوس قزحٍ ينبعث من بين أناملي... وبخَفقي دفق شلّالاتٍ وضَوع ياسمين. لستُ في حالة وَجد... ولا أنا على موعدٍ قريب.. لكنّي، رغم ذلك، أشعر بترددات اللّقاء تسري في الوريد.. أتكلّم.. فأراني أحكي تفاصيل ما حدثَت، مع أنّي أُبصر ذاتي تعيشُها بخفقها، بتردداتها، بانسياب لِحاظها".
تنطلق الأيوبي في نصوصها من الداخل؛ من شعور لحظي أو تأمل طويل أو حنين غامض، إذ لا تروم إلى أن تحكي قصة أو تبني حبكة، بل هدفها هو التقاط لحظة شعورية كثيفة، كأنها لقطة بالكاميرا تُوثّق مشهداً عابراً، لكنه مشحون بالرمز والانفعال، إنها كتابة تُعنى بالحالة، لا بالحكاية، وتهتم بما يشعر به الإنسان حين يرى القمر، أو يسمع نبض الوحدة، أو يتذكر وجه حبيب غائب: "يا غائباً وحاضراً بين السطور... يا وجعاً، وفرحاً.. وعطراً من لهيب... أهدي مطري... انهماري... بقايا دفئي الخريفيّ... ونفحاً من عشقٍ طفوليّ النبض".
وقدمت الكتاب د.ريما الأحدب مجذوب التي رأت أن الأيوبي تحمل القارئ على بساط المشاعر في رحلة وجدانية تتجاوز حدود الزمان والمكان، مقدمة نصوصاً نثريّة، ليست قصيدة التفعيلة، ولا قصيدة النثر، لكنّ الأسلوب الشعريّ تسرّب إلى ميدان النصوص متجاوزًا كلّ الحواجز، فغدت اللغة الشعريّة ملمحًا بارزًا من ملامح الكتاب ، تجلّى في الألفاظ والصور والأحاسيس والإيقاع.
وأشارت مجذوب إلى أن العنوان "لو كنت قصيدة" يثير فضول القارئ ويحرّك فيه حفيظة الذائقة المرجوة من قراءته، وإذا دخلنا إلى نصوص الكتاب نجد أنّ العناوين شكّلت جسرًا يربط المتلقي بالنص فاللعنوان "شرقية" يثير تساؤلات عدّة، ويحفّز القارئ على القراءة، ليكتشف أنّها شرقية المشاعر، أنثوية الروح، منسكبة المشاعر.
وأوضحت د.ريما أن لغة الكتاب انفعاليّة، تتباين فيها الانفعالات بحسب التجربة الشعريّة، وتزخر بالنغمات المتجانسة مع السياق النفسيّ والتجربة الداخليّة، فقد قدّمت لنا الكاتبة ذخيرة أدبيّة تجلّى فيها الوجدان في مستوياته العليا، فانتشر ضمير المتكلم في نصوص الكتاب كافّة، موضحة "ونتساءل ما هذه الأنا التي طغت على النصوص؟ في الواقع هي ليست أنا الكاتبة وحدها، هي الأنا الموجودة في داخل كل متلّقٍ".
وأشارت مجذوب إلى أن النصوص حكايات عن حالات وجدانيّة يتماهى القارئ معها، فالذاتيّة التي طبعت نصوص الكتاب لم تكن الذاتيّة المطلقة البعيدة عن مشاعر الآخرين، بل هي حالات وجدانيّة جعلت القارئ يدخل في حوار مع ذاته، ويبحث عن تجاربه الوجدانيّة الخاصة، موضحة: "اللافت في النصوص اللغة الشعريّة المنسجمة مع السّياق النصيّ، فقد عملت الكاتبة على تكييف لغتها مع ما يتطلبه السّياق، والمفردات ترقّ وتعذب حين يلزم الأمر، وتصبح أكثر صلابة حين تعيش الكاتبة حالة من التصدّع الداخليّ".
وفي رحلة القراءة، بحسب مذوب، نكتشف أنّ الانزياح الدلاليّ طغى على النصوص، فعكست الصورة الشعريّة الإبداع الذهنيّ عند الكاتبة التي استحضرت لغة الإبداع لتعبّر بها عن مشاعرها، فحرّرت اللغة من العلاقات المنطقيّة لتولّد علاقات تثير الدهشة عند القارئ، وعبرت عما يختلج في نفسها من مشاعر وأفكار من خلال الصورة الشعريّة، فكانت مدلولات صورها بمثابة الصدى النفسيّ للمشاعر الذي تفتّقَ بعد مروره بمرحلة الإبداع، وكانت تعبيرا صادقًا عما يجول في نفسها من خواطر وأحاسيس، فشكّلت الصورة الشعريّة المحيط الحيويّ لذاتيّتها، ولعلّ القراءة النفسيّة لمكوّنات الصورة تكشف ما وراءها من أبعاد تعبيرية.
يذكر أن براءة الأيوبي حاصلة على إجازة في العلوم السياسيّة والإداريّة من الجامعة اللبنانيّة، لها مجموعة من الكتب هي: نصوص "ذاكرة الروح"، شهادة مشاركة في كتاب "أحاديث الجائحة – شهود من أهلها"، ومجموعة قصصية بعنوان "المسكونة"، وعدد من الروايات هي: "ورد جوري"، و"حياة ترف- ظل بديل"، و"ربطة عنق"، وحقل ألغام".