ترجمة النصوص الفلسفية شبيهة بمغامرة عوليس، فهي مضنية، لكن عناء السفر يتوج بمتعة الإكتشاف وفرصة اللقاء.
إن عملية الترجمة لا تقتصر على النقل ( نقل فكر لغة إلى لغة أخرى)، بل تساهم في خلخلة الثقافة المتلقية و تؤدي إلى طرح أسئلة جديدة، متحررة من معطف الثقافة المانحة.
إن فعل الكينونة être [ Estin الإغريقية ] هو الذي انبنت عليه قضايا الأنطولوجيا الغربية، في حين ظل هذا الفعل مضمرا على مستوى صياغة قضايانا الأنطولوجية والفكرية بشكل عام.
هامش تحرك المترجم يكون أضيق من هامش تحرك المؤلف، لأنه يتعامل مع نص قائم بذاته، يفترض نقله بأقل الخيانات الممكنة.
إن ان النص الخاضع للترجمة محظوظ، كيفما كان مستوى ترجمته، أما النص الذي لايجد من يترجمه، فانه يظل في وضعية حداد.
– في زمن بيت الحكمة شكلت الترجمة قاطرة بناء الفضاء الثقافي العربي في أقوى لحظاته، فقد بدأ الكندي مترجما و انتهى فيلسوفا، هل لا زال بالإمكان الرهان على الترجمة لتحقيق طفرة ثقافية مماثلة؟
– في زمن "بيت الحكمة" تجلت الإرادة، بالمعنى المحدد من طرف الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر M.Heidegger، كتعبير عن روح الشعب. فقد تجلت الإرادة السياسية في شخص المامون وفي الدولة العباسية التي مهدت الطريق أمام عملية الترجمة وبوأت المترجمين مكانة هامة. كما تجسدت كإرادة روحية عبر فعالية "المثقفين" في تلك الفترة
[ أدباء ومتكلمين وفلاسفة الخ...]. والنتيجة، هي حصول ذلك التلاقح الثقافي الذي ازدهر من خلاله الفكر العربي الإسلامي عبر نهله من مختلف الثقافات [ اغريقية وفارسية وهندية الخ ...]. والأمر الهام، هو أن عملية الترجمة لم تقتصر على النقل ( نقل فكر لغة إلى لغة أخرى)، بل ساهمت في خلخلة الثقافة المتلقية وأدت الى طرح أسئلة جديدة، متحررة من معطف الثقافة المانحة. ولولا ذلك لما كان للفكر العربي الإسلامي ذلك الإشعاع الذي عرفه في العصر الوسيط، ولما ترجمت أعمال مفكرينا إلى اللاتينية، كي يستثمرها مفكرو الغرب؛ فلو كانت هذه الأعمال مجرد نقل للتراث الإغريقي – كما أعلن ذلك، الموقف الإستشراقي المتحيز لمركزيته الغربية – لما تم استثمارها من طرف المفكرين الأروبيين، ولكان هؤلاء قد اختصروا الطريق ونهلوا مباشرة من فكر الإغريق، دونما حاجة الى شروحات وتعليقات ابن رشد او ابن سينا ولا الى اجتهادات الرازي او ابن الهيثم على سبيل المثال.
ان هذه التجربة المتميزة هي عبارة عن درس، يتعين علينا أن نستخلص منه ما يلي :
أولا : لقد كانت الترجمة ولا زالت، اداة للتفاعل بين الثقافات واللغات. ومن هنا تبرز أهميتها في عصرنا الذي يحمل شعار : " حوار الثقافات والحضارات ".
ثانيا : إن هذا التفاعل بين اللغات والثقافات، سيجعل من الترجمة محركا للصيرورة الفكرية واللغوية ومساهما في إنجاز ما سميته ب" الطفرة الثقافية". فالترجمة ليست مجرد نقل، بل هي حوار ونقاش بين أطراف قد تكون متباينة الرؤى والأحكام، لذلك فهي تعتبر ضرورية في هذه المرحلة من مسار ثقافتنا وفكرنا.
– إذا كانت اللغة مسكن الوجود حسب التعبير الهيدغري، فإلى أي حد يمكن الاعتقاد بقدرة المترجم على التحرر من حمولة لغته الثقافية و الاجتماعية و النفسية لضمان نقل أمين للنص المترجم؟
– تذكرني هذه الإحالة على هايدجر، بفكرته حول الترجمة والتي لخصها صديقه جان بوفري في مقدمة كتاب " أبحاث ومحاضرات" بقوله : " إن الترجمة هي مثول امام ...Traduire, c’est se traduire devant ". وبالفعل، فالأمر يتعلق بحوار بين اللغات والثقافات، أي بتواصل. لكن المشكلة الأساسية تتمثل في مدى قدرة لغة المترجم على نقل معاني ودلالات اللغة المترجمة. وهي ليست مشكلة لسانية فحسب، بل أيضا مشكلة فكرية. فغياب الرابطة الحملية في اللغة العربية مثلا، كان له تأثير كبير على البحث الأنطولوجي العربي الإسلامي. لأن فعل الكينونة être [ Estin الإغريقية ] هو الذي انبنت عليه قضايا الأنطولوجيا الغربية، في حين ظل هذا الفعل مضمرا على مستوى صياغة قضايانا الأنطولوجية والفكرية بشكل عام.
وهنا يظهر أمامنا المثال الإيطالي الشهير : Traduttore tradittore، أي الترجمة خيانة. فهل يتعلق الأمر بتصور قدحي او تشهيري لفعل الترجمة؟ لانعتقد ذلك، لسببين على الأقل :
أولهما : أن كل ترجمة هي تأويل. ونحن نعلم أن كل ملفوظ يتضمن معاني متعددة، لذلك لايمكن أن يستقر فهم المتلقين لنص معين على معنى واحد. وهو ما يفسر اختلاف الترجمات وتباينها بخصوص عمل ما.
ثانيهما : أن المترجم لايمكنه ان يتحرر من السياقات المحددة لفعاليته اللسانية والحجاجية والفكرية، وهي سياقات لا تتلاءم بالضرورة مع مقتضيات النص المترجم وسياقات إنتاجه.
لذلك، فإن العلاقة بين النص الأصلي والنص المترجم، كما يقول المفكر الفرنسي الراحل جاك دريدا J. Derrida، ليست عبارة عن إعادة إنتاج، لأن الترجمة ليست صورة ولا نسخة
وبدون الخوض في مناقشة أطروحة المفكر المغربي طه عبد الرحمن، حول أفضلية الترجمة التأصيلية في الفلسفة، على الترجمتين التحصيلية والتوصيلية، لا بأس من الإشارة الى أن كل ترجمة هي تأويل وأننا كما يقول المفكر الفرنسي بول ريكور Paul Ricoeur، بإمكاننا دوما قول نفس الشيء بطريقة أخرى، وذلك هو أساس عمل المترجم.
– إلى جانب أعمالكم في الترجمة قمتم بتأليف مجموعة من الكتب، فما هي خصوصية إنتاج كتاب مترجم مقارنة بتأليف كتاب خاص أم أن الأمر سيان من منطلق أن ترجمة كتاب هو بمثابة إعادة كتابته؟
– من الناحية الصورية، يبدو وكأن ترجمة كتاب ما، تخضع لنفس معايير تأليفه. وأقصد بذلك، وجود مسؤولية أخلاقية وحقوقية والإلتزام بمحددات أسلوبية وبتراكيب لغوية والقيام باجتهادات وتأويلات واستحضار سياقات معينة.
لكن الممارس للعمليتين [ عملية الترجمة وعملية التأليف ] يدرك الاختلاف بينهما. فهامش تحرك المترجم يكون أضيق من هامش تحرك المؤلف، لأنه يتعامل مع نص قائم بذاته، يفترض نقله بأقل الخيانات الممكنة.
كما أن حرية المترجم تكون مقيدة، بحيث لا يمكنه مثلا إصدار أحكامه على النص المترجم، اللهم ما قد يبثه من ملاحظات في التقديم أوفي بعض الهوامش. أضف الى ذلك، أن بعض التراكيب والصيغ والمفاهيم القائمة بالنص الأصلي، تفرض عليك تطويع لغتك وإخضاعها لمقتضيات هذا النص. وهنا تطرح مسألة عدم قابلية بعض النصوص للترجمة، وتلك قضية أخرى.
– اشتغلتم على ترجمة نصوص عديدة تغطي مختلف جوانب العلوم الإنسانية، لكن أغلب اشتغالكم انصب على النص الفلسفي خصوصا في نسخته المعاصرة، فما هي دواعي هذا التوجه؟ و ما هي خصوصية ترجمة نصوص فلسفية تتميز بصعوبة التناول حتى في لغتها الأصلية؟
– ان الإهتمام بترجمة نصوص فلسفية معاصرة ينبع من ثلاث مقتضيات على الأقل
أولها : ندرة المؤلفات الفلسفية المترجمة الى اللغة العربية، وما يستبع ذلك من اطلاع محدود للقارىء العربي على مستجدات الأبحاث الفلسفية المعاصرة. وعلى سبيل المثال : كم عدد مؤلفات جاك دريدا ، المترجمة الى اللغة العربية؟ علما بأن ما أنتجه هذا المفكر يفوق الثمانين مؤلفا. والجواب، هو وجود ترجمات لا تتعدى أصابع اليد الواحدة وينطبق نفس الأمر على فلاسفة ومفكرين ذوي إنتاجات غزيرة وهامة مثل : هابر ماس ولفيناس و دولوز و رورتي وغيرهم.
ثانيها : أن مواضيع الفلسفة المعاصرة متنوعة وغنية، فهي تهم قضايا الفلسفة الأخلاقية والسياسية والجمالية واللغوية والمعرفيةCognitive الخ... وما أحوج خزاناتنا ومكتباتنا لمؤلفات تتطرق لهذه المواضيع، خصوصا في زمن العولمة الثقافية وتطور وسائل الإتصال عن بعد.
ثالثها : أن سلاح المعرفة أصبح ضروريا لمخاطبة الآخر المختلف. وتشكل المعرفة الفلسفية في جوانبها السياسية و الأخلاقية على الخصوص، عنصرا أساسيا لتفعيل الحوار. ما دام النقاش القائم حاليا، على المستوى الكوني يهم قضايا الحق والعدالة والديموقراطية الخ...
فكيف يمكننا التحاور بشأن هذه القضايا ، ما دمنا غير مطلعين بما فيه الكفاية على وجهات نظر الآخر، ونقصد به تحديدا الغرب.
بطبيعة الحال، فان هذه النصوص تتفاوت من حيث عمقها وصعوبتها، لكنني أقول دائما بأن عملية ترجمتها شبيهة بمغامرة عوليس Ulysse، فهي مضنية، لكن عناء السفر يتوج بمتعة الإكتشاف وفرصة اللقاء.
– على المستوى اللغوي عرفتم بترجمة نصوص من الفرنسية إلى العربية، لكن الفلاسفة الذين اشتغلتم على نصوصهم لم يكونوا بالضرورة جميعهم فرنسيين، مما يعني أنكم كثيرا ما تترجمون نصوصا مترجمة و ليست أصلية ألا يسهم هذا من وجهة نظركم في إرباك مضمون النص الأصلي؟
– من بين أكثر من عشرة أعمال مترجمة، هناك استثناء واحد يتمثل في ترجمة نصوص لها برماس حول هايدجر، اخترت لها كعنوان " هايدجر والنازية، التأويل الفلسفي والإلتزام السياسي". ويمكن أن نضيف إليها ثلاثة نصوص متفرقة لحنا آرندت وكارل بوبر وكانط ضمن مؤلف" في الترجمة والفلسفة السياسية والأخلاقية" الذي يتضمن ثلاثة عشر نصا. أما ما عدا ذلك، فان النصوص الأخرى هي لفلاسفة ومفكرين فرنسيين مثل : دريدا، شاتلي، دولوز، ريكور، لفيناس الخ... طبعا، فإن هذا لا يعني أن عملية الترجمة تكون اسهل في هذه الحالة لأن نصوص هؤلاء المفكرين الذين ذكرتهم، تتسم في أغلبها بالتعقيد ويصعب اختراقها.
وأتفق معك، على أن الترجمة من الدرجة الثانية أو ترجمة نص مترجم أصلا، قد تربك مضمون النص الأصلي وقد تكرس انغلاقه وسوء فهمه، وهو ما يحدث مرارا مع النصوص الألمانية المنقولة الى الفرنسية والمترجمة من هذه الأخيرة الى العربية [ نصوص نيتشه وهايدجر مثلا ].
لكن، ما سيخفف من واقع هذا الحكم، هو كون الترجمة عبارة عن تأويل في آخر المطاف، لذلك فإن بإمكان النص المترجم أن يقال بصيغ مختلفة. وهناك مسألة اخرى، أود إضافتها، وهي مستعارة من دريدا، ومفادها ان النص الخاضع للترجمة محظوظ، كيفما كان مستوى ترجمته، أما النص الذي لايجد من يترجمه، فانه يظل في وضعية حداد.
– ساهمتم بشكل كبير في إغناء مجال الترجمة في المغرب سواء من خلال أعمالكم الفردية أو الثنائية أو الجماعية، كما تعاملتم مع ناشرين مغاربة و أجانب عرب بالأساس، فما مدى تقييمكم لتجارب النشر في مجال الترجمة بالمغرب و العالم العربي عموما؟
إن االتجربة الوحيدة في مجال النشر خارج المغرب تمت مع دار الساقي،وهي تجربة غنية ومفيدة من جميع الأوجه. وقد كان من المقرر أن يصدر لي عمل مترجم ومشترك بدار المدى، تحت عنوان " الشرق القديم ونحن" [ حول ميلاد الفكر واللغة لدى الأشوريين والبابليين والفرس والإغريق والعبرانيين ]؛ لكن الى حد الآن لا زالت هناك شكوك تحوم حول هذه الإمكانية.
اما باقي الأعمال، فقد نشرت بالمغرب. ولا أخفيك بأن ما نجنيه هو الربح المعنوي وذلك الشعور الخاص الذي ينتابك ككاتب، عندما يظهر " مولودك" الى الوجود أما التحفيز المادي فهو شبه منعدم، إضافة إلى غياب الشفافية لدى الناشر في التعامل معك، سواء بالنسبة لعدد النسخ المطبوعة او عدد النسخ التي بيعت، هذا إذا ما تم إصدار عملك. ففي كثير من الأحيان تتلقى الوعود بنشر العمل وتنتظر سنة او سنتين، لتفاجأ برسالة اعتذار من الناشر، بعدم تمكن الدار من اصدار الكتاب.
طبعا، فان هذا الأمر يقترن بوضعية الكتاب ووضعية القارىء وبدور الدولة في تدعيم الكتاب [ عبر وزارة الثقافة ] ودور الجمعيات في التحفيز على النشر [ كما هو الشأن بالنسبة لإتحاد كتاب المغرب ].
وباختصار، فنحن في المغرب في حاجة الى حوار صريح بين كل الأطراف المهتمة بوضعية النشر البئيسة ووضع الكاتب غير المحسود عليه، حوار يتجاوز اللغة الخشبية ويطرح الأسئلة الحقيقية التي يمكن ان نوجزها كما يلي : أ ي كتاب؟ لأي قارىء؟ ومن المستفيد من عمليةإاصدار وتوزيع هذا الكتاب؟