
«العنبرُ الخامسُ».. سردٌ جريءٌ يتأمّل الحياةَ في سجنِ النّساء

تواصلُ القاصّةُ والروائيّةُ العُمانية آية السيابي سبرَها لأغوار الذات الإنسانيّة بجرأة، متسلّحة بقلبٍ شجاعٍ، ورأي حرّ، وإيمانٍ عميق بجدوى الكتابة وضرورتها، طارقةً أبوابًا لطالما تجنبَ طرْقها المبدعون والمبدعات في عالمنا العربي، من خلال روايتها الجديدة "العنبرُ الخامسُ/ الحياة في سجن النّساء".
في الرواية الجديدة، وقد صدرت حديثًا عن "الآن ناشرون وموزعون"، بالأردن (2025)، في 264 صفحة من القطع المتوسط، تواصل السيابي انحيازها للّغة المكثّفة، التي تعرفُ طريقها إلى المعنى بيسرٍ وسرعةٍ، فيجد القارئ نفسه في خضمّ الحدث من دون مقدمات.
وقبلَ الولوجِ في عوالم الرواية تعلنُ السيابي انحيازها للأنوثة، عبر رسالة تمهيدية بوصفها عتبة للرواية، تحت عنوان "رجاء!"، قائلة فيها:
أوصيكِ بنفسكِ خيراً!
فكلُّ دمعٍ لا يقطِف منكِ أسوأ ما فيكِ، لا يُعوّل عليه!
وكلُّ نحيبٍ لا يُقرّبكِ من أناكِ، لا يُعوّل عليه!".
الغلاف الأخير للرواية تضمن ثلاث فقرات قصيرات، ذات دلالات عميقة فيما يتعلق بالرواية ومحمولها السردي والوجداني، وكلّ عبارة منها كانت تأتي في مستهلّ جزء من الرواية، لتكون بمثابة تمهيد أو عتبة له، وقد جاءت على النحو الآتي:
"موقف واحد فقط، يجعل الحياة بعده تتخذ وجهة يستحيل معها أن تعاود سيرتها الأولى".
"سُرّبت هذه الأوراق من غسق زوايا سجن عربي مجهول، تعلن عن سجينات منسيّات، سقطت منهنّ أرديتهنّ لسبب لا نعلمه، تحاصرهن جهالة الليل، وتأسرهن ضغينة النهار".
"الحياة في السجن هي فضاء في العدم، في اللاحياة، زمن ميّت أو غافٍ حتى حين. الوقت في زحفه الزمني يتخذ له مقاماً في الانتقام أيضاً ليقتصّ للبشرية من ذنوبنا، فنتلاشى فيه ونغيب ثم يتوقف فينا كل شيء، عدا تكاثر المشيب في قلوبنا وفوق رؤوسنا. كل شيء هنا قد جُنِّد ليتصدّى لنا، والشمس أيضاً، تلك التي غابت عني مذ ولجت هذا العنبر، ولكنني أعلم يقيناً أن شمس السجن أشد سخطاً وعناداً، فنهاراتنا طويلة كالدهر لأنها ترفض المغيب. كيف لا والليل يتواطأ مع أحلامنا!".
يتعدد الساردون في الرواية، وهو تعدد يتيح فرصة مثاليّة لشخصيات الرواية بالتعبير عن شجونهم وشؤونهم، كما يتيح فرصة أنجع لاقتراب القارئ من تلك الشّخصيات، كما جاء هذا التعدد منسجمًا مع خصوصية الرواية، التي تتحرك في فضاء سجن النساء، حيث لكلّ واحدة منهنّ قصتها، وحكايتها التي ترغب بأن تبوح بها.
من أجواء الرواية نقرأ:
"تنهض الزّين "أم فضيلة" من فراشها فزعة. يبدو أنها كانت تخوض حربًا فيما بينها وبين ليلها. رأسها مثقل، وقلبها مستنفر بجنون، وكأن جياع الطير تنهش منه. تتذكر أن هذا الحلم يتكرّر بإصرار يشبه الانتقام. منذ أن غادرت "فضيلة" هذا المنزل والحلم نفسه يزورها كطائر الشؤم، ينقر سلامها الداخلي ويطير محلقًا، تنفث عن يمينها ثلاثًا وعن شمالها ثلاثًا، وهي تستعيذ من شرّ ما تأتي به تفاسير حلمها، فكل ليلة يتثاءب جفناها بكسل، حتى إذا ما أرسلتهما بخنوع تام لسلطان النوم داهمها زائرها الليلي الثقيل، كابوسًا غريبًا لم تملك أن تفسره، فقد كانت ترى أن سدرة الحوش في بيتهم ترشح مساماتها دمًا عنيدًا لا يتوقف كأن جذعها يتحلّب، ولا تملك أن توقفه، بينما قطّ أعور يلعق ما فاض من الدم.
خرجت الزين من غرفتها لتتفقّد ابنتها البكر "علياء". تفتح الباب في هدوء وسكينة، ترى كومة جسد يختبئ تحت الغطاء الصوفي وسط ظلام الغرفة. تغلق الباب بالهدوء ذاته، وترجع وئيدًا لتقتعد سجادتها وتصلي. سوف تكتشف، بعد سنتين، أن كومة الصوف التي تُطمئنها كل ليلة، ما هي إلا خدر لسكينة لذيذة تمثّلها مجموعة وسائد محشوّة تكذّب جسد علياء وهو غارق في أحلامه، بينما الجسد الحقيقي يهرب إلى واقع أكثر ترفًا لا يطاله حدس الأمهات. سوف تكتشف أيضًا أنها قد أسرفت في جهالتها لأنها لم تنبش يومًا غطاء علياء، واكتفت بأن يطلّ وجهها ليرى التكوّم نفسه كلّ مرّة. ستبكي الجدّة العجوز التي كانت لا تنام الليل إلا قليلاً وبجفن مرهف، فلا يكاد يتسلّل قط سارق إلى البيت حتى تصيح به زاجرة ليخرج وينتفض خائفًا. تمتمت "الزّين" بحزن ممتد لو كانت العجوز ما زالت هنا لما توالت علينا النكبات، كأنّها مطر حجارة فوق رؤوسنا الحسيرة من كل شيء عدا القلق والترقب: (رحمة الله تغشاكِ عمتي أم صالح الحبيبة)".
تجدر الإشارة إلى أن السيابي روائيّة وقاصّة، وهي طالبة ماجستير/ تخصص حضارات بجامعة منوبة/تـونس، لها مقالات منشورة في صحف عربية مختلفة، وهي عضو في الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء، أصدر مجموعة قصصيّة بعنوان (لن أواري سوأتي) 2021، ورواية بعنوان (يباسْ) 2022، إضافة لـ(العنبر الخامس) 2025. نالت عددًا من الجوائز، منها: جائزة الشارقة الثقافية لإبداعات المرأة الخليجية في دورتها الخامسة – المركز الأول/ فرع الآداب والفنون في مارس 2023، جائزة العمانيات الرائدات في مجال الثقافة والأدب بترشيح من وزارة الثقافة، جاء التكريم من قبل معالي الدكتورة ليلى النجّار وزيرة التنمية الاجتماعية في أكتوبر2024.