الأربعاء ٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح سليمان عبد العظيم

العناق الأخير

كان العالم صامتا جدا بثقل غريب وسكينة الموتى وبعثرة الأشلاء عندما فتحت عينيها. كأن الأصوات والصخب والحركة سُرقوا. كانت الفتاة الصغيرة الناعمة مستلقية على الأرض. الغبار متراكم حولها. جسدها بلا حراك. باستثناء ارتفاع وانخفاض أنفاسها المتلاحقة. كانت عيناها العسليتان تفتحان رموشهما بالكاد، محاولة فهم طبيعة الأنقاض المحيطة بها. كان شعرها الناعم لزجا بالدم. متشابكا في كتل حول وجهها، الذي يحمل خدوشا وجروحا كثيرة من الحطام المتساقط. كل شيء حدث سريعا جدا. سمعت أزيز طائرات الصهاينة. وفي لمح البصر انمحت الأسرة والبيت من الوجود!! رغم اعتيادها على الدمار الذي أحال جمال غزة، ورائحة هوائها البحري العميق لساحة من القتل المتواصل، والتدمير الهمجي، فإنها لم تستوعب رؤية ركام منزلهم.

حاولت ببطء الجلوس. يدها الصغيرة تضغط على رقبتها حيث لدغها شيء حاد وعميق. كان بإمكانها أن تشعر بدفء الدم اللزج من الجانب الأيمن لرقبتها، لكن عقلها كان مشوشا للغاية بحيث لم يستطع التوقف عند الألم. بدلا من ذلك، نظرت حولها، باحثة في الحطام الذي كان ذات يوم منزل عائلتها. الجدران المألوفة، والمدخل الذي طلاه والدها باللون الأزرق السماوي، ونبات الياسمين الخاص بوالدتها - كل ذلك تحطم، مثل لعبة سحقت تحت يد ضخمة.

شيئا فشيئا، عادت إليها قطع من الذاكرة. ضحك أمها، صوت والدها يناديها باسمها، القبلة الناعمة على جبينها قبل النوم. ثم... لا شيء. فقط الصمت والظلام. لم يكن لديها كلمات لما حدث، فقط شعور بأن شيئا ما مفقود، ألم أجوف كان كبيرا جدا بحيث لا يمكن فهمه.

تحركت قدماها الصغيرتان عبر الحطام. تعثرت وسقطت. دفعت نفسها للخلف بيديها المرتعشتين. ثم، بالقرب من كومة من الحجارة، رأت شيئا أوقفها عن البرودة والخوف المحيطان بها. رأس أمها. ملقى بين الركام. بدون حجاب. عيناها مغمضتان كأنها نائمة فقط، تعبيرها ناعم وهادئ وحزين. فقط الرأس مع الرقبة ودم ينز تباعا. مدت الفتاة يدها، ونفضت الشعر بعيدا عن جبين أمها، وأصابعها ترتجف. أمسكت رأس أمها برفق، وضمته بين ذراعيها الصغيرتين. همست "ماما..." لكن لم تأت إجابة!

استمرت في البحث. ساقاها ضعيفتان وأنفاسها خافتة. شعرت بلسعة الدموع التي تريد النزول، لكن بطريقة ما، ظلت عيناها جافتين. بين الجدران المحطمة والأثاث المكسور، وجدت صدر والدها وذراعيه وأحشاء متدلية فيما يشبه البطن. تذكرت عناقه لها. كيف كان يقذفها في الهواء إلى أعلى، ويعود لاحتضانها مرات ومرات. سحبت بقايا والدها من تحت الأنقاض، ووضعتها ملتصقة برقبة والدتها. اكتمل الرأس والذارعان والصدر والبطن!

تحركت بعزم وثبات. ركز عقلها الطفولي على هذا الغرض الغريب الوحيد. كانت تعلم أنها لا تستطيع إعادتهما، ليس بالطريقة التي كانا عليها من قبل، لكنها تستطيع تجميع الأشلاء معا، مثلما كانت تفعل دائما مع لعبة الأحاجي التي تعشقها. ربما تستطيع أن تجمعهما معا مرة أخرى!

بعد ذلك، وجدت قطعة من جسد والدتها، حساسة ومألوفة، ووضعتها بعناية على جذع والدها. وأخيرا لامس فخذ والدها وقدماه الطويلتان جسد أمها. كانت تشبه النحات الذي يشكل تمثاله. كانت تحمل بعض اللحم من هنا ومن هناك. لا تعرف إن كان ينتمي إلى أمها أم إلى أبيها لتسد فراغا ما في الصدر أو البطن أو الفخذين. قطعة وراء قطعة وأشلاء وراء أشلاء حتى اكتمل البنيان. أعادت يداها الصغيرتان المرتعشتان عائلتها من جديد.

نظرت الفتاة إلى أبويها. على الرغم من الرعب الذي انتابها، شعرت بالهدوء يخيم عليها. بالنسبة لها، لم يكن كائنا مخيفا أو مرعبا. رغم تهدل اللحم، ونزيف الدم، والفجوات هنا وهناك، فقد كان كاملا - الشخصان اللذان تحبهما أكثر من أي شيء آخر، الآن يتجليان في واحد فقط، حيث تشم عطر أمها في أباها، وتشعر بقوة أباها في أمها.

استلقت بجانبهم، ولفت ذراعيها الصغيرتين حول مخلوقها الجديد. كانت جروحها تنبض، ورقبتها تؤلمها، لكنها بالكاد لاحظت ذلك. أغمضت عينيها، وتخيلت دفء لمسة والدتها وقوة ذراعي والدها اللذين يحتضنانها. تباطأت أنفاسها، وارتسمت ابتسامة ناعمة على وجهها.

ثم ابتعدت بسلام، وكان آخر عناق لها مليئا بالحب الذي ستحمله إلى الأبد.

في ضوء الصباح، كان العالم هادئا. استقر الغبار حول الفتاة الصغيرة، ووجهها البارد، وهي مستلقية بجانب الأسرة التي أعادتها إلى بعضها البعض بالطريقة الوحيدة التي استطاعت بها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى