
الحياة
الحياة كالنور المنبعث مع بزوغ الفجر، كما أنها كالشمس الغاربة خلف أسوار البحر، فهي مثلما تُشرق تغيب وتختفي، ومثلما تُضيء، تُظلم وتخبو.
ومثلما تسير إلى العلا والروابي، تنخفض عميقاً إلى الوديان والمنخفضات، كل منا يعشق النور المنسكب من عينيها، لكنه يهاب الظلام المختبئ بين طيات الثياب، فمن منا يهدجُ في دروبها بغير خوف ومن منا يقهقه في مجلسها بغير حساب؟ فهي أن أتت بنور فسوف ترحل بظلمة. وأن غنت ورقصت فهي ستبكي وتتألم. وهي تبتسم وعلى مبسمها ألف من الحكايات، وهي أن تجهمت يسود صمت وكآبة.
الحياة تسيرُ دائماً ولا تتعب، فهي قديمة متجذرة في أعماق الماضي، ولا تتوقف لأنها سائرة في عالم ثائر نحو الآت القادم.
الحياة كالبحر عميقة بأسرارها متقلبة، فأحياناً تكون هادئة وساكنة، وأحياناً أخرى تكون كالموج دائمة الصراخ والصراخ. الحياة كالفصول فهي مثلما تُعري الأشجار من أوراقها تُكسبها وتُلبسها أجمل الثياب، ومثلما تُكسيها تُعريها وتَضعها ضعيفة هالكة بين مخالب الشتاء الغاضب. وهي صيف هادئ كما أنها شتاء قارس. تصرخ في الأودية والكهوف بحثاً عن سنين عبرت وعن أعمار ارتحلت، وهي مثلما تكون في فرحها دافئة وضاحكة تكون في حزنها باردة ومكتئبة.
هي الحياة التي لا تقف في المنتصف بين النور والظلمة، ولا تحبو فتكشف وجهها للشمس، ولا تبوح بسرها كي لا تنتهي وتزول. بل تحيا في غموض دائم فلا تتكلم عما تخفيه فتقوله، بل هي كالريح تجلجل وكالغمام تتشكل وتتلاشى، وكالضباب تسيل من أعلى الجبال إلى أعماق الأودية ومن ثم تزرو وتتبدد. كالولادة تأتي بفرح. وكالموت ترحل بحزن. كالنهار متسعة ومشرقة وكالليل ضيقة ومظلمة.
هي الحياة تكون مثلما تريد أن تكون، فلا نستطيع أن نغير ما فيها ولا تستطيع أن تغير ما فينا، إنما نمشي معاً منذ الولادة وحتى الموت جنباً إلى جنب، فهي تنظر دائماً إلى الغروب وتسري إلى هناك بحماسة، ونحن نشيح بأعيننا نحو الشمس. محدقين إلى النور الأعلى. باحثين عن البقاء والأبدية. خائفين من اضمحلال الضوء، وتسلل الليل المعتم إلى أعماق الأجساد المتهالكة وطيها أوراقاً في كتب من سراب.
هي الحياة تأتي أبداً غامضة، وترحل مثلما تأتي غامضة، فتترك وراءها ظلالاً تائهة تبحث عن حقيقةٍ ليست بحقيقة.