الإنسان في القرآن عند العقاد
ربما كان من أفضل الأبحاث التي تطرقت الى مفهوم الانسان ودوره ومكانته هي تلك التي قدمها المفكر الكبير عباس محمود العقاد، فطرح في كتابه ( الإنسان في القرآن الكريم ) مجمل الأسئلة التي دارت في ذهن ( الإنسان ) منذ القدم وعلى مر العصور، وحاول تقديم الإجابة على تلك الأسئلة استنادا الى القرآن الكريم،
مع التنبيه الى أنه لا وجود لجواب على هذه الاسئلة في غير ( عقيدة دينية ) تجمع للإنسان صفوة عرفانه بدنياه وصفوة ايمانه بغيبها المجهول .
وقطعا فإن أي فكر أوأيديولوجية انسانية وضعية ستعجز عن فهم ( الانسان ) بكافة جوانبه وأبعاده، فضلا عن عجزها عن تحديد الدور الوظيفي لهذا الانسان الذي خُلق من أجله وعجزها عن تحديد علاقته مع الكون .
ينقسم الكتاب الى بحثين ( أوكتابين )، وسأتناول في موضوعي هذا الكتاب الأول ( الانسان في القرآن )، وسأتطرق الى النقاط المذكورة فيه بإختصار،
والان اذكر تلك الاسئلة ( كما ذكرها العقاد )، وهي :
– من هوالانسان ؟
– ما مكانه من هذه السيارة الأرضية بين خلائقها الأحياء ؟
– ما مكانه بين ابناء نوعه البشري ؟
– وما مكانه بين كل جماعة من هذا النوع الواحد، أوهذا النوع الذي يتألف من جملة أنواع يضمها عنوان ( الانسان ) ؟
لقد أعتبر العقاد بأن معرفة الانسان لإجابات هذه الاسئلة ستضمن له النجاح والاستمرارية، وأن الجهل بها سيقابله فشل ذريع يعود على الانسان بنتائج كارثية .
للإجابة على هذه الاسئلة قدم العقاد مجموعة من النقاط والتي تُشكل في مجملها نظرة القرآن الكريم للإنسان، وبالتالي فإن هذه النظرة تُقدم إجابات شافية على تلك الاسئلة أوعلى أي سؤال آخر قد يطرأ على الأذهان،
وهذه النقاط هي :
– المخلوق المسؤول،
كان لإرتفاع القرآن بالدين من عقائد الكهانة والوساطة والالغاز الى عقائد الرشد والهداية وإعمال العقل والفهم الأثر الكبير في تصحيح صورة الانسان، هذا المخلوق المسؤول،
فقد بين القرآن الكريم أن الانسان هوأكرم الخلائق نظرا لتفرده بـ ( الاستعداد ) للتكليف، هذا الاستعداد ( الذي تفتقر اليه باقي المخلوقات ) جعل الانسان يتذبذب بين نقيضين هما : الكمال والنقص، والخير والشر، ويقول العقاد :
( ان الجمع بين النقيضين في الانسان ينصرف الى وصف واحد، وهووصف الاستعداد الذي يجعله أهلا للترقي الى أحسن تقويم وأهلا للتدهور الى أسفل سافلين ) .
وكون الانسان مناط تكليف فهذا يتطلب بالضرورة أنه مسؤول عن عمله سلبا أوايجابا ومحاسبا عليه .
– الكائن المُكلف،
بين القرآن الكريم مكانة الإنسان، ووَضَعه في أشرف منزلة في ميزان الفكر وفي ميزان الخليقة الذي توزن به طبائع الكائن بين عامة الكائنات، وانتشله من قاع الصور الفلسفية التي حاولت تصوير الانسان بغير صورته ووضعه في غير مكانه، ويقول العقاد عن ( الانسان ) في ذلك :
( هوكائن أصوب في التعريف من قول القائلين انه " الكائن الناطق " وأشرف في التقدير، وهوأصوب في التعريف من " الملك الهابط " ومن " الحيوان الصاعد " وأشرف في التقدير من هذا وذاك، فليس " الكائن الناطق " بشيء إن لم يكن هذا النطق أهلا لأمانة التكليف، وليس " الملك الهابط " منزلة تهدى الى طريق الصعود والهبوط، وليس " الحيوان الصاعد " بمنزلة الفصل بين ما كان عليه وما صار اليه، ولا بمنزلة التمييز بين حال وحال في طريق الارتقاء،
إنما الكائن المكلف شيء محدود بين الخلائق بكل حد من حدود العقيدة أوالعلم أوالحكمة، وحادث من حوادث الفتح في الخليقة موضوع في موضعه المكين بالقياس الى كل ما عاداه ) .
وقد بين القرآن أن لا تعارض بين التكليف وإعمال العقل والمنطق في أي حال من الأحوال، بل على العكس تماما حيث أن التاريخ البشري لم يعرف قبل الاسلام رسالة تُميز الانسان بخاصة التكليف واعداده لخطاب العقل وبينات الاقناع .
– روح وجسد،
مع اقرار القرآن الكريم لحقيقة أن الانسان هوروح وجسد، وعلى اعتبار أن عقيدة الروح هي إحدى العقائد الغيبية في القرآن، وبما أن العقائد الغيبية أساس عميق من أسس التدين، فإننا نجد أن القرآن كان المنهاج الوحيد الذي لم يُوجد تعارض بين الايمان بالعقائد الغيبية والعقل، فالعقائد الغيبية في القرآن لا تُعطل عقول المؤمنين بها ولا تُبطل التكليف في خطاب العقل، وهنا يؤكد العقاد على أن الروح والجسد في القرآن الكريم ملاك الذات الانسانية، تتم بهما الحياة، ولا تنكر احداهما في سبيل الآخر، فلا يجوز للمؤمن بالكتاب أن يبخس للجسد حقا ليوفي حقوق الروح، ولا يجوز له في المقابل أن يبخس للروح حقا ليوفي حقوق الجسد، ولا يُحمد منه الاسراف في مرضاة أي طرف من الطرفين .
– النفس،
وهنا أبدع العقاد ( كعادته ) في تحليل مفهوم ( النفس ) وبين أوجه الخلاف بين ( نفس ) الفلاسفة و ( نفس ) القرآن الكريم ، وبيّن الفرق بين النفس والروح والعقل ، وارتباط كل منها بـ ( الانسان )، وهنا يقول العقاد :
( فجملة هذه القوى من النفس والعقل والروح هي " الذات الانسانية "، تدل كل قوة منها على " الذات الانسانية " في حالة من حالاتها، ولا تتعدد " الذات الانسانية " بأية صورة من صور التعدد لانها ذات نفس أوذات روح أوذات عقل، فإنما هي إنسان واحد في جميع هذه الحالات )،
قدم القرآن الكريم عرضا للنفس في جميع قواها وحالاتها، فذكر القرآن الكريم – النفس اللوامة والنفس الملهمة والنفس الأمارة بالسوء والنفس المطمئنة والنفس البصيرة، ثم جاء العقاد ليختم موضوع النفس بهذه الخلاصة :
( لعلنا نفقه من هدى القرآن الكريم ترتيب هذه القوى في الذات الانسانية، وعمل كل منها في القيام بالتكليف وتمييز الانسان بمنزلة الكائن المسؤول، فالإنسان يعلوعلى نفسه بعقله، ويعلوعلى عقله بروحه، فيتصل من جانب النفس بقوى الغرائز الحيوانية ودوافع الحياة الجسدية، ويتصل من جانب الروح بعالم البقاء وسرّ الوجود الدائم وعلمه عند الله، وحق العقل أن يُدرك ما وسعه من جانبه المحدود، ولكنه لا يدرك الحقيقة كلها من جانبها المطلق الا بإيمان وإلهام ) .
– الأمانـة،
كان ذكر ( الامانة ) في القرآن الكريم يُفيد دائما معنى التبعة والعهد والمسؤولية، وحتى عندما ذُكرت بمعنى الوديعة المالية ( كما في سورة البقرة ) فهي لم تخرج عن المعنى العام للأمانة وهوالحق والفريضة وكل ما يرعاه الإنسان من عهد وذمة،
اجتماع الفطرة والعقل والادارك عند الانسان دون باقي المخلوقات كان السبب في قبوله لحمل الأمانة ( التكليف ) مع علمه بتبعات هذا الحمل، قال تعالى : ( إنا عرضنا الأمانة على السموات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا )،
ظلوما – لأنه يتعدى الحدود وهويعرفها، وجهولا – لأنه يتعدى تلك الحدود وعنده أمانة العقل التي تهديه الى معرفة تلك الحدود، فلا عذر له في ( جهلها ) .
– التكليف والحرية،
وهنا نبّه العقاد الى الخطأ الكبير الذي يقع فيه العديد من المجادلين في قضية القدر وقضية الايمان وقضية التكليف والجزاء ألا وهوإهمالهم لشرط الطاعة وإقتصارهم على شرط الحرية فقط، مع العلم أن من مقتضيات التكليف وجود الحرية والطاعة معا،
وهذا الباب تاه فيه الكثيرون، لأن اقتران الجزاء بالحرية المطلقة فقط دون شرط الطاعة هواستحالة عقلية،
ثم يُشير الى الفرق بين الايمان الذي يُلغي العقل وبين الايمان الذي يعمل فيه العقل غاية عمله ليصل الى الايمان، ثم يطرح قضية هامة في معرض حديثه عن العقل والايمان، وهي هل يستطيع العقل أن يعلم بضرورة الايمان ؟
يُجيب العقاد عن هذا التساؤل بكل براعة حيث يقول :
( الموجود الذي يصُح أن نؤمن به هوموجود كامل أبدي ليس له حدود، والموجود الذي ليس له حدود لا يُحيط به إدراك العقل المحدود، وبالتالي فإن النتيجة العقلية لهذه الحقيقة هي إحدى اثنتين :
إما إنكار جُزاف، وإما تسليم بحقيقة تفوق إدراك المعقول ) .
ثم يُبين أن الانكار يُعطل العقل ويوقعه في نقيضين، حيث يكون الانكار في هذه الحالة معناه أن سبب الإيمان الوحيد هونفسه سبب الانكار الوحيد .
وبالنتيجة فإن العقل الذي يزيد عليه الايمان هوالعقل الذي خاطبه القرآن بالتكليف .
– أسرة واحدة،
فيما تاه العلماء الغربيين في ( تصنيف ) الانسان، هذا النوع الحيواني الذي ارجعه البعض الى سلالة القرود، فضلا عن تقسيمه الى طبقات حسب لونه، جاء القرآن الكريم ليضع الانسان ( علما ودينا ) في موضعه الصحيح، وذلك حين قدمه على أنه ابن ذكر وأنثى، وأنه ينتمي بشعوبه وقبائله الى الاسرة البشرية التي لا تُفاضل بين الاخوة فيها بغير الايمان والعمل الصالح .
ويحسب البعض للوهلة الاولى أن تعدد القبائل والشعوب هومن باب الافتراق والتباين، إلا أن هذا التعدد هوباب التكامل، هذا التكامل الذي يسعى بالنتيجة الى وحدة بني الانسان، وهذه الوحدة في صلة الانسان بالانسان تُساعد على زيادة الصلة بين الناس وربهم الذي ساوى بينهم في الانسانية ولا يتفاضلون بين بعضهم البعض الا بالتقوى والعمل الصالح .
قال تعالى : ( يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير ) .
– آدم،
ثم جاء القرآن الكريم ليقدم لنا قصة أدم، قصة الانسان الأول الذي خُلق من تراب، وارتقى بالخلق السوي الى منزلة العقل والارداة، وهنا يقول العقاد :
( هذه قصة نشأة آدم في القرآن، وهي إحدى قصص الخلق والتكوين، وفي هذه القصص جميعا من أمر الغيب ما هوحق الايمان، وفيها من أمر الحياة الانسانية ما يسعه خطاب العقل، ويتقبله بعلم منه يوافق الايمان، وهوالعلم بقيم الحياة أوالعلم " بالقيم " العليا في حياة الانسان وسائر الأحياء،
ولباب القيم جميعا أن الفضيلة العليا إرادة وتجربة، وليست منحة يبطُل فيها التصرف ويمتنع فيها التميز ) .
ثم يذهب العقاد في الكتاب الثاني الى استعراض عدد من القضايا اذكر منها :
– الانسان في مذاهب العلم والفكر .
– الانسان ومذهب التطور .
– الدين ومذهب داروين .
– الانسان في علوم النفس والأخلاق .
– مستقبل الانسان في علوم الأحياء .
وأخيرا يختم العقاد كتابه بطرح هذا السؤال الهام : هل صحيح أن القرآن يُلقي بالإنسان غريبا منقطعا في القرن العشرين ؟
ثم يجيب على هذا السؤال ويقول :
( الجواب الذي لا تردد فيه هوأن القرآن يضع الانسان في موضعه الذي يتطلبه، فلا تسعده عقيدة أخرى أصح له وأصلح من عقيدة القرآن، لأن عصر العلاقات العالمية لا يتطلب " مواطنا " أصح وأصلح من الانسان الذي يؤمن بالأسرة الإنسانية، ويستنكر أباطيل العصبية ومفاخر العنصرية ليعترف بفضل واحد متفق عليه في كل أرض وبين كل عشيرة آدمية وهوفضل الاحسان في العمل واجتناب الإساءة ) .
أما موضع الانسان بين خلائق الارض والسماء أنه المخلوق المميز الذي يهتدي بالعقل فيما علم، وبالايمان فيما خفي عليه، وموضعه من بني آدم وحواء أنهم أخوة من عشيرة واحدة، اكرمها من كرم بما يعمل من حسن ويجتنب من سوء، وأفضلها من له فضل بما كسبه وما اتقاه، لا يُدان بعمل غيره، ولا ينجومن وزره بغير عمله .