الأستاذ الذي يسأل دائما: «من أنت»؟
حكايات مستمرة ومتتابعة ومتدفقة من دفتر شخصية "التلجاوي مبروك التايه"
كان الأستاذ التلجاوي مبروك التايه يبدو كأسطورة في جامعة الرواد المحلية جدا. لم يكن ذلك يعود لأسباب وجيهة تماما، ومقبولة حتى إنسانيا. كان ذكاؤه الريفي السام يطفو على السطح دائما بطريقة لا يمكن إنكارها. ومع ذلك، كانت غطرسته تلوح في الأفق مثل ظل كل محاضرة رتيبة يلقيها. وكل محادثة باردة يجريها. كان يتبختر عبر طرقات الجامعة. برأس مرفوع، على رقبة جرداء قاحلة. ووجه ممسوح، كأرداف فتاة في بدايات التشكل.
كان يتمتع بلزوجة غير معهودة تجعله يلوي فمه الملوي أساسا بيولوجيا لأنك نطقت اسمه بدون ألف ولام التعريف.
– أنا اسمي التلجاوي، وليس تلجاوي. أنا اسمي التلجاوي، وليس تلجاوي. أنا اسمي التلجاوي، وليس تلجاوي.
يقولها بفخر وبأناة وبطريقة مقرفة وسمجة تجعل المرء يتخيل أنه أخطأ في شيئ مهم جدا. بالغ الخطورة. وأن الكون سوف يتغير جراء هذه الغلطة التافهة.
لكن الشيء الأكثر غرابة فيه لم يكن غطرسته، بل عادته الغريبة: بغض النظر عن مدى معرفته لشخص ما، فقد كان يتظاهر دائما بالجهل وعدم معرفته. يطرح دائما السؤال المحير نفسه:
– من أنت؟
لم يكن يهم إن كنت طالبا حضر كل محاضراته أو أستاذا تعاون معه في أوراق بحثية متعددة. كان يميل برأسه قليلا إلى الخلف. يحدق في السقف باحثا عن شيئ ما لا يراه إلا هو. يبدو السقف في أحيان كثيره ملاذا له. صديقا غير مرئي يطالع من خلاله عليائه وتصوراته الشامخة عن نفسه الذابلة. بعدها، ينظر إليك بتناحة أهل القرى المعروفة. بمزيج من الإزدراء والانفصال، ينطق بهذه الكلمات.
كان هذا العرف بين طلابه مصدرا للإحباط والفتنة والريبة والغموض في الوقت نفسه. خذ لينا على سبيل المثال، وهي طالبة مجتهدة في الماجستير. أشرف التلجاوي مبروك التايه على أطروحتها لأكثر من عام. في كل مرة كانت تقترب منه، وهي تحمل فصولها المنقحة بعناية. كان يرفع بصره من فوق مكتبه ويسأل:
– من أنت؟
– يا أستاذ التلجاوي، التلجاوي!! تكررها أكثر من مرة حتى تتأكد أنه سمع اسمه بالألف واللام!!
– أنا لينا. نعمل على أطروحتي لشهور طويلة.
كانت تجيب، وتخفي انزعاجها بابتسامة مشدودة. وقرف شديد. تنتابها رغبة عارمة في أن تمد يدها وتصفع هذا الوجه الثعلبي الماكر. وجه الذئب الضال، كما كانت تقول وتكرر دائما!!
– نعم. أجل. لينا.
كان يرد بإشارة استخفاف، وكأن وجودها لم يكن له أي تأثير يُذكر في مخطط مساعيه الفكرية. ووجوده الملموس!!
بالنسبة للطلاب، بدا أن هذه العادة تكشف عن انغماس الأستاذ في ذاته. وهى مسألة قد تكون صحيحة بدرجة كبيرة. فهو يتكلم لنفسه فقط. الجميع يخرج صوته للخارج، وهو الوحيد الذي يستنشق صوته. كانوا يتساءلون بصوت خافت حول الدوافع وراء سلوكه. هل نسيهم حقا، أم أنه كان عملا متعمدا لتأكيد تفوقه؟ وإذا كان قد نسيهم فعلا، فلماذا دائما ما يتذكر طالبة اللغة الفرنسية الفارعة التي يجلس معها لساعات طويلة حيث يشربون الليمون مرات عديدة. في جلسات يغلب عليها الهيام والغيام في الوقت نفسه. ولماذا لا ينسى مساعدته الأثيرة الملاحقة له في كل مكان، محليا وإقليميا. ولماذا دائما ما يكون محاطا بالفارعات السمينات اللاتي يعشق وجودهن دائما وأبدا!! ويتهلل وجهه الشاحب دائما بوجودهن!!
الحقيقة كانت أغرب كثيرا من كل التفسيرات والقيل والقال الذي يدور في الخفاء حول شخصيته.
وراء واجهته المتغطرسة، كان الأستاذ التلجاوي مبروك التايه يخفي شعورا داخليا بعدم الأمان. كان يعرف طلابه وزملائه بشكل أفضل بكثير مما يظهر. كان يتذكر كل مقال، وكل حجة، وكل وجه. لكن بالنسبة له، كان التظاهر بعدم المعرفة نوعا من القوة. كان استخدامها بشكل علني للغاية بمثابة فقدان السيطرة. من خلال التظاهر بعدم معرفتهم، حافظ التلجاوي مبروك التايه على جدار غير مرئي. جدار أبقى الجميع على مسافة ذراع وعزز شعوره بالسلطة. أوهم الجميع بتلك القوة المفرطة، وذلك التعالي المنسوج من رحم الجبن والخداع والخنوع.
في يوم من الأيام، قررت لينا أنها قد سئمت هذا الرجل. بعد تحيته المعتادة.
– من أنت؟
وضعت مسودة أطروحتها بقوة على مكتبه والتقت نظراتهما وجها لوجه.
قالت بنبرة ثابتة ولكن حازمة:
– أستاذ، التلجاوي. أنا لينا. الطالبة التي مزقتها وأعدت بناء أطروحتها حول علم اجتماع القوة والغطرسة وقلة الأدب أكثر من مرة. لا أستطيع إحصاؤها. الطالبة التي شكلت حججها وأرشدتها. الطالبة التي تعرفها جيدا بالفعل.
تجمد الأستاذ التلجاوي مبروك التايه للحظة. فوجئ بجرأتها. وميض من شيء ما - شعور بالذنب! مفاجأة! عبر وجهه. تهته، وغمغم. بان صوته متأوها كأنه في لحظات شبق لرجل ستيني ضال. بعد ذلك اختفى هذا الشعور. حل محله برودته المعتادة. صمته المريب. هدوءه القاتل المستبد!!
قال بهدوء وهو ينقر على المخطوطة:
– أجل، إن حجتك بشأن الغطرسة المؤسسية تتحسن. وتصوراتك عن قلة الأدب تزداد تبلورا. استمري.
استمري.استمري!!
لم يغب عن لينا السخرية الخافتة في كلماته.
عندما غادرت مكتبه، أدركت شيئا عميقا:
– لم يكن سؤال التلجاوي مبروك التايه سؤالا عن الآخرين فحسب؛ بل كان أيضا عن نفسه. تحت غطرسته يكمن رجل يشك باستمرار في هويته ومكانته في العالم الذي انتقده مرارا وتكرارا. لكن لم يتواصل معه حقا. شخصية ضائعة. عاشت أياما طويلة في رحاب الأقوياء الذي أجلسوه دائما خانعا متهاويا هشا. شخصية مفككة. متشظية. هائمة!!
هكذا، في المرة التالية التي سألها فيها:
– من أنت؟
ابتسمت لينا في سخرية حادة. أجابت بهدوء استعارته من هدوءه المميت:
– شخص ما يعرف من أنا. فهل تعرفه أنت يا أستاذ تلجاوي، تلجاوي، تلجاوي؟
لفترة وجيزة، اتسعت عينا التلجاوي مبروك التايه، ثم، لأول مرة، أومأ لها برأسه اعترافا حقيقيا، وانكسارا مخزيا!!