

ملح الأرض
اليهود، منذ تاهوا، غدوا ملح الأرض. هكذا قيل عنهم، وهكذا أقول، فما من مكان يخلو منهم. وأنا أشغل نفسي بالكتابة عن صورتهم في الأدبين العربي والفلسطيني، لسنوات طويلة، منذ عشرين عاما تقريبا، أخذت أقرأ عن صورتهم في الأدب العالمي، في المعاجم الأدبية المتخصصة التي أفردها أصحابها، مثل (فرنزل) و(ديميرش)، لموضوعات الأدب العالمي وموتيفاته، وفي الكتب التي تناولت الموضوع- أي صورة اليهود في الأدب الإنجليزي أو الأدب الألماني أو الأدب الروسي أو الأدب الفرنسي... الخ.
قرأت في المعاجم المتخصصة عن مجمل صورتهم، وقرأت عن (استير) و(فرموزا) يهودية توليدو، وقرأت أيضا عن راحيل وعن (شايلوك)، وقرأت في الكتب عن اليهودي التائه، واليهودي المنعزل، واليهودي المرابي، وقرأت أيضا عن المرأة اليهودية الحديثة المتحررة التي تنحاز للحياة، لا إلى أفكار قديمة عتيقة تقيد حريتها، عن المرأة التي تتبع قلبها، لا تقاليد قومها.
ومنذ انتهيت من كتابة أطروحة الدكتوراة التي عنوانها "اليهود في الأدب الفلسطيني"، وجدتني أواصل الكتابة عن صورتهم في نصوص ما بعد العام 1991، كأن رسالة الدكتوراة مشروع متواصل لمّا ينته حتى هذه اللحظة، بل ووجدتني أواصل الكتابة عن صورتهم في الرواية العربية، حتى أنني أنجزت كتابا آخر في الموضوع، نشر الكترونيا عن دار الرقمية، وحقق لي مكاسب خيالية، إذ لم أقبض، حتى اللحظة، أي شيكل أو دولار من عوائده.
هل اقتصرت قراءاتي عن صورتهم على الأدبين العربي والفلسطيني وما ورد في المعاجم الأدبية المتخصصة؟ العام المنصرم حصلت على كتاب بالألمانية عنوانه (سلمون وربيكا): اليهودي النمطي في كاريكاتير الصحافة التركية ما بين 1933 و1945. ولفترة فكرت أن أغض النظر عن متابعة صورتهم، فما أشاهده في الواقع يكفي.
في العام 2007 زرت في نهاية أيار عمان، واشتريت من كشك (أبو علي)، قرب بناية البنك العربي، وسط العاصمة، روايتين للكاتب التركي (أورهان باموق) ترجمهما عبد القادر عبد اللي، هما البيت الصامت والكتاب الأسود. وبدأت في حزيران أقرأ الأولى، قلت: علنّي أبتعد عن الصراع العربي- الإسرائيلي قليلا مصورا في الأدب، فلا شك أن الكاتب التركي سيكتب، كما في روايته "ثلج" عن الأوضاع في بلده. وأخذت أقرأ، لمدة أربعة أيام، الرواية. هل غاب أبناء العمومة عنها؟ هل استرحت من متابعة سيرتهم وصورتهم قليلا؟
اليهود ملح الأرض، ولأنهم كذلك، منذ تاهوا، فلقد طالعتني شخصية يهودية في الرواية. في المقطع 11 ستبرز صورة لليهودي مالك المال، تاجر الذهب، والمخادع والماكر أيضا. وفي بداية المقطع 20 يؤتى على ذكر ماركس. هل استطاعت الشخصية الروائية تجريده من يهوديته؟ طبعا لا.
اليهود ملح الأرض. هكذا قيل.
هل يمكن، الآن، القول: إن الفلسطيني غدا ملح الأرض؟ هل تبادلنا نحن وأبناء العمومة الأدوار في أشياء كثيرة؟ المرحوم محمود درويش كتب في"مديح الظل العالي" هذا، حين صرخ: ضحية قتلت ضحيتها، وصارت لي هويتها.
أنا أيضا، المهتم بصورة اليهودي في الأدب، أنجزت دراسة عنوانها: "الشحاد اليهودي والشحاد الفلسطيني" ألقيتها في مؤتمر الأدب الفلسطيني في جامعة بيت لحم، في العام 2007، ونشرتها في مجلة "قضايا إسرائيلية" الصادرة عن "مدار".
كان اليهودي في المنفى شحادا. هكذا صوره (ثيودور هرتسل) في روايته "أرض قديمة-جديدة" (1903)، وتخيله في دولته المنوي إقامتها سيد نفسه وحرا طليقا منتجا لا يعيش على الصدقات.
والفلسطيني الذي كان يأكل من عرق جبينه في وطنه، يوم كان له وطن، غدا، بعد طرده منه، شحادا، في وطنه وخارج وطنه. والمنفى الذي عانى اليهودي منه، ثم تخلص منه، غدا لعنة الفلسطيني.
الفلسطيني، الآن، ملح الأرض. مرة كتبت: كم نتبادل نحن وأبناء العمومة الأدوار؟!
قبل أسبوع أحضرت لي زميلة كنت أشرفت على رسالتها في الماجستير عن التناص في رواية "باب الشمس" (1998) لإلياس خوري، أحضرت لي رواية جديدة للكاتبة السعودية زينب حفني، وعنوانها "سيقان ملتوية" (2008). ولا تتجاوز الرواية 128 صفحة، ورواية بهذا الحجم يمكن أن أفرغ من قراءتها في يوم واحد. وهكذا بدأت أقرأ الرواية. قلت ابتداء: لعلني أتحرر أيضا من قراءة نص أدبي فلسطيني فأبعد عن موضوع الصراع العربي-الإسرائيلي، فهل تحقق هذا؟
نحن، كما قلت، غدونا، ما كان عليه اليهود، وما زالوا عليه: ملح الأرض. فرواية زينب حفني هذه لم تخل من شخصية فلسطينية تقيم في المنفى، حيث ولدت هناك لأبوين مهاجرين من العام 1948، بسبب قيام دولة أبناء العمومة.
طبعا ليست "سيقان ملتوية" هي الرواية العربية الأولى والوحيدة التي صور كاتبها فيها شخصية فلسطينية. فكما كتب عن اليهود في الأدب العالمي: الإنجليزي والألماني والروسي والفرنسي، كتب أيضا عن الفلسطيني في الأدب العربي، وهناك غير دراسة في هذا الجانب. وليست رواية زينب حفني هي الأولى التي أقرأها، ويأتي صاحبها فيها على شخصية الفلسطيني. هناك روايات كثيرة، منها عرس فلسطيني للسوري أديب نحوي، وروايات إلياس خوري اللبناني أغلبها، وثلاثية أحلام مستغانمي "ذاكرة الجسد" و"فوضى الحواس" و"عابر سرير". الفلسطيني حاضر فيها، ولا أريد أن أحصي الروايات العربية التي برز فيها.
هل تختلف صورة زياد في "سيقان ملتوية" عن صورة الفلسطيني في روايات الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا؟ الفلسطيني فنان، وموهوب وجذاب ومعشوق من النساء. وهو كذلك في "ذاكرة الجسد" وإن كان شاعرا وعقائديا.
نحن أيضا ملح الأرض، والحمد لله أن صورتنا في "سيقان ملتوية" كانت إيجابية، علماً بأنها ليست دائما كذلك.