ما عدت أحب اللون الأحمر
كان فارسنا منذ صغره يوصف بالأحمر، ليس بالسلطان الأحمر، ولا بالملك الأحمر، ولكن بالصعلوك الأحمر، وما أكثر صعاليك هذا الزمان بشتى الألوان.
لم يدرك فارسنا وهو صغير ، كيف يفلسف الأمور ولم يعرف ماذا يعني أن يكون لونه أحمر، كل ما كان يعرفه أن الهنود الحمر، اضطهدوا في بلادهم، وأن أحد ألوان العلم الفلسطيني أحمر، والأحمر يرمز الى الدم، والى الحرب، والى الكفاح ضد الاستعمار وضد الأجنبي.
كبر فارسنا وكبرت معه همومه، وأصبح لونه أحمر "بحق وحقيقة" وعرف أنه ليس الوحيد الذي يوصف بالأحمر، وإن ثمة حمر كثيرون فكان واحداً منهم. سألته ذات مرة: لماذا أنت أحمر يا أخي؟ فقال: لأنني أريد أن أبني عالماً خالياً من المشاكل والإستغلال ، عالماً يحب فيه المرء أخاه، وصديقه، وجاره. عالماً لا يوجد فيه ظالم ومظلوم، عالماً لا تغتصب فيه المرأة ولا يقتل بريء، عالماً لا يجوع فيه امرؤ، عالماً توجد فيه الفرص للجميع بالعلم والعمل والحياة الكريمة، عالماً لا يوجد فيه سحاقيات ولا لوطيون، ، عالماً يضحك فيه الجميع ويكونون أسرة واحدة، لا فرق فيهم بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى.
قلت هذه الجنة ورب الكعبة، ولا أعتقد أنك تستطيع أن تبنيها، إذ لو كان باستطاعة البشر أن يبنوها على الأرض لما خلقها الله في السماء. فقال لي: أصبر وسوف ترى.
ومرت السنون وليس الأيام، ومضى كل منا في حاله، أبعدتنا الأيام، وحالت دون لقائنا مصاعب الحياة، حتى التقيت أخيراً به بعد فراق طويل. تصافحنا، وتسامرنا، وعرفت أنه لم يعد أحمر كما كان من قبل، قلت له: مالي أرى لونك قد تغير يا أحمر؟! فمد لي يده بمقطوعة شعرية قصيرة كتبها على قصقوصة ورق قال فيها:
ما عدت أحب اللون الأحمر
ما عدت أنفذ أي قرار
اليوم أنا حر من كل قيود الأحزاب
أقرأ كل الصحف اليومية
وأطالع كل الأشعار
لا تلزمني هيئات دنيا أو عليا
لا يخرسني صوت الأغلبية
لا يمنعني أن أكتب شعراً
كل قرارات المركزية
رفعت بصري عن الورقة وقلت يا صديقي ما غيرك؟! ماذا جرى بجنتك التي ستبنيها على الأرض؟ تنهد الأحمر السابق وقال: يا صديقي، كنت أعتقد أنني سأبني جنة على الأرض يسكنها الناس، فإذا بي أسير في طريق أبني فيه جنة لشلة من المنافقين والمرتزقة. كنت أحب أن أرى السعادة على وجوه الأطفال، فإذا بمن حولي يريدون السعادة لأنفسهم، كنت أناديك أخي، فقالوا: قل رفيقي، وكأن كلمة الأخ تعني شيئاً سلبياً لدى الحمر، مع أن مثلنا العربي المشهور يقول
"رب أخ لك لم تلده أمك".
كنت أحب القضاء على الفقر والجوع، وكنا نبحث معاً عن عالم المساواة، فإذا بنا نحن الحمر، لا مساواة بيننا، أحدنا غني، وآخر فقير. أحدنا ينام على فرش وثير، وآخر ينام تحت السرير. ندعو الناس للعدالة ولا ننام حتى نشرب الخمور ويدور الكأس في الرأس. ندعو للعدالة الاجتماعية بين "الرفاق" فلا نشاهد إلا التمييز والمحسوبيات. حرية الرأي معدومة، وكل رأي مخالف لرأينا هو رأي عميل ومدسوس من القوى الخضراء والسمراء، "حطتنا" الفلسطينية السمراء، صبغناها باللون الأحمر، لأن هذا لوننا.
بحثنا عن القشور وتركنا الجوهر من الأمر. أصبح همنا، كيف نجلس على كراسي حمراء ونأكل على موائد حمراء، حتى احمرت فينا المشاعر وأصبحنا لا نميز بين الأسود والأبيض.
أصبح ممنوعاً علينا قراءة الأدب العربي، محرم علينا قراءة الأشعار والغناء للحب والحياة، كان مطلوباً منا فقط أن نغني للأحمر، ولكل شيء أحمر حتى قالوا لا تتزوج إلا الحمراء..
بين أن أكون أحمر كما كنت طفلاً، وبين اللون الأحمر عندما صرت كبيراً فرق كبير من السماء للأرض.
أنا يا أخي اسمح لي أن أقول لك أنني لم أعد أحب اللون الأحمر، ولهذا قررت تغيير لوني مهما كلف ذلك من ثمن.
قلت لصديقي المنفعل: مرحباً بك أيها الأحمر، فوا لله ما فعلت إلا الصدق وعين الصواب. إن كنت في السابق فقط أحمر، فأنت اليوم أحمر، وأخضر وأسود وأبيض.
وستبقى كذلك حتى الممات.