

في بحور الشعر
نزار قباني الذي يصور مجتمعنا القمعي من رأس السلطة الأولى إلى السلطة الرابعة وصولا إلى ناطور البناء الذي يمتلك، كما يعتقد، وحده ليلا كل مفاتيح اللغة وأوزان الشعر.
ديك
في حارتنا ديك ساديٌ سفاح
ينتف ريش دجاج الحارة كل صباح
في بحور الشعر
كان الشعر في العصور الماضية وسيلة ماضية من وسائل الإعلام والإعلان، وكان للشعر عند العرب نكهته التي تميزه عن شعر باقي العالم حتى أصبح صنعة عند القدماء والمعاصرين.
ولقد أبدعوا في صنعتهم هذه قبل الإسلام وبعده وعبر العصور المديدة
حتى رأينا ما يدهش السامع والقارئ من نظم وتنميق وإنشاء جعل من شعراء العربية أسياد الشعر ، ليس في المعاني والصور الجميلة فقط بل تعدوا ذلك إلى ما يمكننا أن نسميه الإبداع بترتيب الحروف.
منها :
أبيات كل حروفها بدون نقط :
الحمد لله الصمدحال السرور والكمدالحول والطول لهلا درع إلا ما سردكل سواه هالكلا عَددٌ ولا عُدد
أبيات فيها حرف عاطل فحرف معجم :
ونديم بات عنديليلة من غليلخاف من صنع جميقلت لي صبر جميلقرة لي ميل قلبمنك يا غصنا يميلسيدي رق لذليسيدي عبد ذليل
بيتا مدح يصيران هجاء بعكس ترتيب كلماتهما:
حلموا فما ساءت لهم شيمسمحوا فما شحت لهم مننسلموا فما زلت لهم قدمرشدوا فما ضلت لهم سنن
وأيضا ما كتبه شعراء العربية من الجناس :
عضنا الدهر بنابهليت ما حل بنا بهالصدق في أقوالنا أقوى لناوالكذب قي أفعالنا أفعى لنا
ولم يكن يعيب الشعراء في كل العصور ما بان من مقصدهم وظهر في صور جميلة ممتعة للسامعين تجعلهم ينطلقون بخيالهم إلى تلك الصور دونما حاجة إلى جهاز مرئي أوآلة تصوير ودونما حاجة إلى تفسير وتقدير ، الهم إلا ما كتبوه في عصرهم وكان على أبناء العصور التالية أن يعودوا إلى قاموس اللغة التي كتبوا بواسطتها شعرهم بمفردات عصرهم .
ولا كان يعيبهم الوزن أيضا أوالقافية، فلقد نسج القدماء والمتأخرون أوزانا مختلفة كل على قياسه أطربت سامعيهم وقارئيهم وأحصاها من جاءوا بعدهم ورتبوها وسموها حتى أصبح عددها كبير عبر العصور منها :
الطويل – المديد – البسيط – مخلع البسيط - مجزوء البسيط – الهزج – الكامل – مجزوء الكامل – أحذ الكامل - الوافر- مجزوء الوافر – الرجز – مجزوء الرجز – منهوك الرجز – الرمل – مجزوء الرمل – السريع – المنسرح – الخفيف – مجزوء الخفيف – المضارع – المقتضب – المجتث – المتقارب – مجزوء المتقارب – المتدارك – الخبب – الدوبيت – مجزوء الدوبيت – التفعيلة – والموشحات واوزانها كثيرة – وما دام الشعراء يكتبون وينشدون فإن بحور الشعر لا حصر لها ولا نهاية طالما أن هذه البحور تلامس حس السامع وقلبه.
وشعراء العربية أكثر من رمال الشواطئ وأبعد من آفاق البحار، منهم على سبيل المثال لا الحصر جبران خليل جبران ومظفر النواب الذي أطربنا في عمر الشباب، ونزار قباني الذي انتقده معاصروه من المتحزبين إلى الشعر القديم بقوافيه وأوزانه، ولكن التاريخ أنصفه حين انتشر شعره بكل أوزانه وألوانه وأنماطه على كل لسان بينما اندثر شعر منتقديه أويكاد.
نزار قباني الذي يصور مجتمعنا القمعي من رأس السلطة الأولى إلى السلطة الرابعة وصولا إلى ناطور البناء الذي يمتلك، كما يعتقد، وحده ليلا كل مفاتيح اللغة وأوزان الشعر.
قصيدة اسمها ( ديك)
في حارتنا ديك ساديٌ سفاحينتف ريش دجاج الحارة كل صباحفي حارتنا ديك يصرخ عند الفجر كشمشون الجباريطلق لحيته الحمراء ويقمعنا ليلا ونهارفهوالواحد وهوالخالد وهوالمقتدر الجبارفي حارتنا ثمة ديك عدواني فاشستي نازي الأفكارسرق السلطة بالدبابة ألقى القبض على الحرية والأحرارألغى وطنا ألغى شعبا ألغى لغةألغى أحداث التاريخوالغي ميلاد الأطفالوألغى أسماء الأزهاريلبس في العيد القومي لباس الجنرالات****في حارتنا ديك من أصل عربيفتح الكون بآلاف الزوجاتيرأس أحدى الميليشياتلم يتعلم إلا الغزوإلا الفتك وألا زرع حشيش الكيف وتزوير العملاتكان يبيع ثياب أبيه ويرهن خاتمه الزوجيويسرق حتى أسنان الأمواتفي حارتنا ديككل مواهبه أن يطلق نار مسدسه الحربي على رأس الكلمات ( 1)
ما كان يعيب الشعراء دائما وفي كل العصور هوما خفي من شعرهم على القارئ في عصرهم الأمر الذي لا يراعيه شعراء عصرنا الحاضر ، بالخصوص عندما كثر الشعراء الهلاميين الذين لا يبين من مقصدهم إلا خيال لا معنى له إلا في قلم الشاعر نفسه ،إنهم يركبون كلمات على كلمات في محاولة لإيجاد صور غريبة وكلما ازدادت غرابتهم وغربتهم ظنوا أنهم يصيبون من الشعر ما ستخلده الأجيال القادمة ، فهذا ينظم ( أحجية ) وتلك تنظم ( حزورة ) حتى بات الشعر في عصرنا محاولة لإظهار الضياع الذي يصيب كل مجتمعنا ، هذا الشعر صنفه المهتمون بالأمر والقيمون على النشر – بالشعر الحديث !!!!!.
إن الشعر في عصرنا لا يختلف كثيرا عن باقي العصور ، فالشعر العربي القديم
المقفى والموزون ينقسم أقساما شتى ، ما قبل الفراهيدي وما بعده ، في العصر الحديث وما قبله وفي عصر الأندلس أيضا كان لأهل المغرب أوزانهم وقوافيهم وعروضهم .
ولم يكفينا ربما ما ظهر من قسمة وتشرذم وضياع في كل نواحي حياتنا الحاضرة ، فانقسم الشعراء في عصرنا إلى مناصرين ( ومتحزبين ) للشعر القديم والموزون ونصف الوزن والمرسل والمسترسل والعامودي والأفقي ، وفي ذلك كله محاولة إلى ترتيب البيت ( من الشعر ) تقليدا لما فعله الخليل ومن بعده ، وكأن ترتيب الشِعر كتصفيف الشَعر يلزمه مصفف ومصنف.
اتركوا الشعر كما خط القلم ، فإن بهت مات ولم يقم ، وإن حسن حفظته كل الأمم .
يقول ابن خلدون في مقدمته :
" الفصل الخمسون :
في أشعار العغرب وأهل الأمصار لهذا العهد اعلم أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط بل هوموجود في كل لغة سواء كانت عربية أوأعجمية وقد كان في الفرس شعراء وفي يونان كذلك وذكر بعضهم منهم أرسطوفي كتاب المنطق وأوميروس الشاعر واثني عليه وكان في حمير أيضا شعراء متقدمون ولكن فسد لسان مضر ولغتهم التي دونت مقاييسها وقوانين إعرابها وفسدت اللغات من بعد بحسب ما خالطها ومازجها من العجمة فكانت تحيل العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الأرباب جملة وفي كثير نمتن الموضوعات اللغوية وبناء الكلمات وكذلك الحضر من أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في الإعراب جملة وفي كثير من الموضوعات اللغوية وبناء الكلمات وكذلك الحضر وأكثر الأوضاع والتصاريف خالفت أيضا لغة الجيل من العرب لهذا العهد واختلفت هي نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق فلأهل الشرق وأمصاره لغة غير لغة أهل المغرب وأمصاره وتخالفها أيضا لغة أهل الأندلس وأمصاره ولما كان الشعر موجودا بالطبع في أهل كل لسان لان الموازين على نسبة واحدة في إعداد المتحركات والسواكن وتقابلها موجودة في طباع البشر.
فلم يهجر الشعر بفقدان لغة واحدة وهي لغة مضر الذين كانوا يحملون فحوله وفرسان ميدانه حسبما اشتهر بين أهل الخليقة بل كل جيل وأهل كل لغة من العرب والمستعجمين والحضر أهل الأمصار يتعاطون منه ما يعاطوهم في انتحاله ورصف بنائه على مهيع كلامهم فأما العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر فيقرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض ( العروض ) على ما كان عليه سلفهم المستعربون ويأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر وأغراضه من النسيب والمدح والرثاء والهجاء ويستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام وربما ( نسجوا )
على المقصود لأول كلامهم وأكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر ثم على ذلك ينسبون فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد بالأصمعيات نسبة إلى الأصمعي رواية العرب في أشعارهم وأهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر البدوي وربما يلحنون فيه ألحانا بسيطة لا على طريقة الصناعة الموسيقية ثم
يغنون به ويسمونه الغناء باسم الحوراني نسبة الى حوران من أطراف العراق والشام وهي منازل العرب البادية ومساكنهم إلى هذا العهد ولهم فن آخر كثير التداول في نظمهم يجيئون به معصبا على أربعة أجزاء يخالف آخرها الثلاثة في رويه ويلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة شبيها بالمربع والمخمس الذي أحدثه المتأخرون ولهؤلاء العرب في هذا الحديث الشعر بلاغة فائقة وفيهم الفحول والمتأخرون.
فلما كثر الشعر في قطرهم وتذهبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية واستحدث المتأخرون منهم فنا منه سموه بالموشح ينظمونه أسماطا أسماطا وأغصانا أغصانا ويكثرون من أعاريضه المختلفة ويسمون المتعدد منها بيتا واحد ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتاليا فيما بعده إلى آخر القطعة وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراس والمذاهب وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد وتجاوز في ذلك إلى الغاية واستظرفه الناس جملة الخاصة والكافة لسهولة تناوله وقرب طريقته ...
واشتهر منهم أبي بكر بن زهير ...
وقد شرقت موشحاته وغربت قال وسمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول قيل لابن زهير لوقيل لك ما أبدع وارفع ما وقع لك في التوشيح قال كنت أقول:
ما للموله من سكره لا يفيقيا له سكرانمن خمر ما للكئيب المشوقيندب الأوطانهل تستعاد أيامنا بالخليجولياليناأويستفاد من النسيم الأريجمسك داريناواد يكاد حسن المكان البهيجأن يحيينانهر أضله لوح عليه أنيقمورق الفينانوالماء يجري وعائم ووريقمن جني الريحان
ومن محاسن الموشحات للمتأخرين موشحة ابن سهل شاعر اشبيلية وسبتة من بعدها فمنها قوله:
هل درى ظبي الحمى أن قد حمىقلب صب حله عن مكنسفهوفي نار وخفق مثلمالعبت ريح الصبا بالقبس
وقد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبوعبد الله بن الخطيب شاعر الأندلس والمغرب لعصره وقد ملا ذكره فقال :
جادك الغيث إذا الغيث همايا زمان الوصل بالأندلسلم يكن وصلك إلا حلمافي الكر ى أوخلسة المختلسإذ يقود الدهر أشتات المنىينقل الخطوعلى ما يرسمزمرا بين فرادى وثنىمثلما يدعوا الفؤاد الموسموالحيا قد جلل الروض سنافثغور الزهر فيه تبسموروى النعمان عن ماء السماكيف يروي مالك عن انسفكساه الحسن ثوبا معلمايزدهي منه بأبهى ملبسفي ليال كتمت سر الهوىفي الدجى لولا شموس الغررمال نجم الكأس فيها وهوىمستقيم السير سعد الأثروطر ما فيه من عيب سوىانه مر كلمح البصرحين لذ النوم منا أوكماهجم الصبح هجوم الحرسغارت الشهب بنا أوربماأثرت فينا عيون النرجسأي شيء لامرئ قد خلصافيكون الروض قد مكن فيهتنهب الأزهار فيه الفرصأمنت من مكره ما تتقيهفإذا الماء يناجي والحصاوخلا كل خليل بأخيهتبصر الورد غيورا برمايكتسي من غيظه ما يكتسيهوترى الآسي لبيبا فهمايسرق الدمع باني فرسيا أهيل الحي من وادي الغضاوبقلبي مسكن أنت بهضاق عن وجدي بكم رحب ألفضالا أبالي شرقه من غربهفأعيدوا عهد انس قد مضىتنقذوا عائذ بكم من كربهواتقوا الله واحيوا مغرمايتلاشى نفسا في نفسحسر القلب عليكم كرماأفترضون قراب المحبسوبقلبي منكم مقترببأحاديث المنى وهوبعيدقمرا اطلع منه المغربشقوة المغرى به وهوسعيدقد تساوى محسن أومذنبفي هواه بين وعد ووعيدساحر المقلة مغسول اللماجال في النفس مجال النفسسدد السهم فأدمى إذ رمىبفؤادي نبلة المفترسإن يكن جار وخاب الأملوفؤاد الصب بالشوق يذوبفهومن نفسي حبيب أولليس في الحب لمحبوب ذنوبأمره معتمل ممتثلفي ضلوع قد براها وقلوبحكم الحظ بها فاحتكمالم يراقب في ضعاف الأنفسينصف المظلوم ممن ظلماويجازي البر منها والمسيءما لقلبي كلما هبت صباعاده عيد من الشوق جديدكان في اللوح له مكتتباقوله إن عذابي لشديدجلب الهم له والوصبافهوللأشجان في جهد جهيدلاعج في أضلعي قد أضرمافهي نار في هشيم اليبسلم يدع من مهجتي الا الدماكبقاء الصبح بعد الغلسسلمي يا نفس في حكم القضاواعبري الوقت برجع لي ومتابواتركي ذكرا زمان قد مضىبين عتبي قد تقضت وعتابوأصر في القول إلى المولى الرضاملهم التوفيق في أم الكتابالكريم المنتهى والمتمماأسدي السرج وبدر المجلسينزل النصر عليه مثلماينزل الوحي بروح القدس
ويقول ابن خلدون في خاتمة ما يقول :
واعلم أن الأذواق كلها في معرفة البلاغة إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة وكثر استعماله لها ومخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية فلا الأندلسي بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب ولا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس ولا المشرقي بالبلاغة التي في شعر الأندلس والمغرب لان اللسان الحضري وتراكيبه مختلفة فيهم وكل واحد منهم مدرك بلاغة لغته وذائق لمحاسن الشعر من أهل جلدته ))- (1)
اتركوا الشعر للأقلام تكتبهلا تمنعوه فإذن الناس تنقده
أوكما قال الشاعر :
في بحور الشعر دوما يغرق الشبانوالمسافر في الدجى فليسأل الربانإن تعالى الموج والبحر انتفضإنما البحر يساوي عـــندنا حرفان *
حواشي :
(1) نزار قباني – قصيدة ديك
(2) - مقدمة ابن خلدون صفحة 582-588
*البحر : يم