ضيف من ضيوف آكل البشر
في الحي عرف "ميري « بشقاوته وتزعمه جماعة من الصبيان المفتخرين بتكوين " عصابة لمواجهة " عصابات" الأحياء المجاورة في معارك حامية الوطيس.
كان يعود أحيانا بشفة منتفخة أو عين زرقاء…. يفتخر به أبوه عوض تأنيبه ، الشيء الذي كان يشجعه على شحذ روحه القتالية.
كان " ميري" رئيس " العصابة" يتصرف تصرف الرئيس الآمر حتى مع بنات الحي …. تندرج إحداهن كلما بصرته خلف السور العتيق، يقبلها قبلة عفوية لكن حبلى بالحنان وهما يرتعشان خوفا من انكشا فهم من ظروف أحد سكان الدرب، رغم أن حب الأطفال هو دائما قحا نظيفا.
في البداية كان يرافق أكثر من فتاة خلف السور العتيق، لكن مع مرور الأيام اقتصر على مرافقة " ماريا" دون سواها، كانا يتكلمان عن قسوة الوالدين وينسجون مشاريع مستقبلية موحدة … تواعدا على عدم الافتراق مهما حصل…. وظلا يتبادلان الهدايا والقبل.
….. اقتنى والد " ميري" سيارة مستعملة، لكنها كانت أول سيارة للعائلة مكنتها من السفر هنا وهناك، كما مكنت " ميري" من مرافقة والده إلى الصيد البري، الشيء الذي سمح له بتعلم استعمال البندقية رغم حداثة سنه.
أصبحت عادة أن يرافق " ميري" أباه كل يوم أحد إلى جولة القنص ، وفي إحدى جولات الصيد ، ابتعد " ميري" عن والده في طريقه رأى بطة جاثمة على غصن …. تبدو جميلة بردائها الريشي الملون، لم تغادر مكانها بالرغم من اقترابه منها، أحس " ميري" بنشوة، أليس هو صديق الحيوانات؟ هل عرفت البطة ذلك وأحست بالخطر، لم يعد يفصله عنها إلا ثلاثة أمتار، يرفع بندقيته إلى خده والبطة لا تبالي بحركاته…. يضبط فواهة مخرج الرصاص نحوها ثم يضغط على القرص…. يحدث انفجار وتسقط البطة على الأرض.
يسود صمت رهيب…. يتساءل:الشجرة جثة طير هامدة، بقعة حمراء ترتسم على يد الفتى حال لمسها، تنساب دموعه رغما عنه، تبلل ريش البطة دون أن تعيد لها الحياة…. يتساءل : ماذا فعلت؟ يكتشف لأول مرة بالمعاينة والمعايشة أن السلاح يقتل…. يحفر حفرة ويضع الجثة ثم يغمرها بالتراب ويغرس شاهدين كهيئة قبر.
نظرا لفشل " ميري" الدراسي الذر يع قرر أبوه إلحاقه بمؤسسة تعليمية حرة، … تأزم الآمر عندما لاحظ الفتى تفوق كل زملائه في مختلف المواد ماعدا مادة الرياضة البد نية، كان " ميري" مصحوبا من طرف الجميع، جميع التلاميذ، ربما بفعل شقاوته وعدم تردده في فعل أي شيء مشروعا كان أم محظورا و لحثه على الدراسة والاهتمام بها فضل والده جعله داخليا، يأكل ويبيت بالمؤسسة لا يغادرها إلا في نهاية الأسبوع والعطل، في الليل كان " ميري" يجتمع بأصدقائه الخمسة بمرحاض غرفة النوم لتدخين السجائر، وكلما خلصت يتكلف أحدهم بالتسلل ليلا والقفز عبر السور الخارجي للمؤسسة ليشتريها من الدكان المجاور رغم علمه بأنه فعل محظور وممنوع تماما وعواقبه وخيمة ففي حالة ضبطه سيطرد من المؤسسة، كانت المجموعة متراصة تجمعهم الشقاوة وتميزهم عن باقي التلاميذ.
تمر سنتان على هذا الحال، لا يرى " ميري" أباه إلا أيام العطل وأحيانا ناذرة إبان الإجازة الأسبوعية…. يطرد من المؤسسة ويسافر إلى الشاطئ لقضاء العطلة الصيفية.
هناك يتعرف على فتاة جميلة اسمها " ياسمين" أكبر منه سنا … جذبت أنظاره وشرع في المغامرة معها، تنتهي العطلة يتبادلان العناوين ويتواعدان على المراسلة وقبل الوداع يجرح " ميري" سبابته وسبابتها ويجمعان الأصبعين الداميين الواحد فوق الآخر حتى يلمس جرحه جرحها ويختلط دمه بدمها إخلاصا لعلاقتهما لقد شاهد ذلك في لقطة فلم هندي.
لم يفهم أحد سبب بكائه حين مغادرة الشاطئ كان يفكر في بعدها عنه، تلك التي ستكون سببا لهروبه من منزل أبويه.
في كل ليلة كان يحلم بها وبأسفار ومغامراتهما بطلاها يلج مدرسة حرة جديدة ويثقل كاهل أسرته بمصاريف لا طاقة لها بها، وكانت النتيجة أسوأ من السابق، نقط ضعيفة غياب مفرط عن حصص الدرس بالإضافة للشقاوة المعهودة فيه.
كان " ميري" يهوى التخلي عن درس من الدروس للذهاب إلى السينما، وإذا تعذر عليه ذلك اختلق مشكلة ليقوم المدرس بطرده من الحصة …. فإما يعترك مع أحد التلاميذ أو يتعدى بالمكشوف على آخر أو يستهزئ بالأستاذ وكان له صديق أكبر منه سنا، يجمعهما الكسل وتوحدهما الشقاوة، اقترح عليه عشية يوم أن يرافقه إلى منزل سيئ السمعة لممارسة رجولته وامتحان فحولته، يعصفان بحصة الرياضيات والجغرافيا والعلوم الطبيعية للتوجه إلى بيت بيع الأجساد الأنثوية حسب التعريفة المعمول بها.
يقول له الصديق:
– هل سبق لك أن ملكت جسدا أنثويا لوحدك برهة من الزمن؟
– يجيبه " ميري" بفخر وافتخار مصطنعين:
– هل تعتبرني من أولئك الذين قذفت بهم حافلة " زحيليكة" أم ماذا؟…..
– بالطبع سبق لي أن ……
يبدو أنك لا تعرفني جيدا…..
يعقب الصديق قائلا:
– سترى سأقودك إلى منزل سيروقك ما ستجد فيه، لكن عليك الأداء علينا نحن الاثنين، هل لديك ما يكفي من النقود.
– - يرد عليه باعتزاز:
– لا تقلق لدي ما يكفي وزيادة.
يصلان إلى درب ضيق متسخ وجل، ركام الأزبال في كل مكان، أطفال من مختلف الأعمار يتمرغون في الوحل والروائح الكريهة، من حين لآخر حروف تثير انتباه " ميري" مكتوبة بخط رديء على أبواب بعض المنازل: " بيت عائلة محترمة"، " بيت محترم" " ممنوع الطرق"…… تمتلكه ابتسامة ماكرة كلما قرأ إحداها.
يلجان باب بيت مشبوه ويجدان محترفات الحب والهوى جالسات في بهو ينتظرن الزبائن، يمسك صديقه بيد إحداهن ويتوجهان إلى قاع الدار، يظل " ميري" ينظر يمينا وشمالا …. تقول له " المعلمة".
– خلصنا يا هذا؟
تقوم كل واحدة من الجالسات بحركة ماكرة لإثارة انتباهه وحفز غريزته قصد التمكن من استهلاك الخدمة التي أدى ثمنها لدى الباب.
نادى " ميري" إحداهن وتوجها معا نحو باب مقفل، يختلي بها بالغرفة الفارغة تقريبا لولا فراش ملقى وسطها مباشرة على الأرض، تقفل المومس الباب وتأمره بالإسراع و إلا فسدت " المعلمة" عليهما لحظة المتعة المؤدى عنها مسبقا، اجتهد " ميري" لجعلها لا تكتشف أنها المرة الأولى التي يشتري فيها جسدا أنثويا لبرهة من الزمن.
…. يفتح " ميري" باب الغرفة، يخرج مسرعا مطأطأ الرأس فارغ الوفاض.
وأصبح من حين لآخر يتردد على المنزل سيئ السعة رفقة صديقه كلما تمكن من وضع اليد على المبلغ المالي الكافي لشراء جسدين لبرهة من الزمن.
….. الجو مازال مكهربا بين " ميري" وأبيه، وكلما تكاسل زادت المشادات يهرب منها باللجوء إلى السينما والتفرج على الأفلام، كان يهوى الأفلام البوليسية وأفلام المغامرة ورعاة البقر، فكان الوقت يقبضه بقاعات العرض أكثر من الذي يقضيه بقاعة الدرس.
وفي الشارع، مع أصدقائه، لم يكن هناك إلا الشقاوة والمعارك والمشاجرات، وكل الوسائل كان مسموح بها / القوة، الغدر، التعدي، التحايل….
ومع نهاية السنة الدراسية تظهر النتائج ويطرد " ميري" دون السماح له بتكرار السنة رغم التدخلات والوسائط والاتصالات، يستدعيه مدير المؤسسة ويخبره بقرار الطرد مصرحا له:
– إذا تماديت في السكة ألت أنت عليها الآن يا بني فستجد نفسك في السجن لا محالة.
–
– ثم ناوله ظرفا لتسليمه لوالده، وفي طريقه إلى المنزل يتساءل الفتى حول كيفية إعلان خبر طرده للعائلة، وما دام المدير سلمه الظرف المشؤوم عوض بعثه عبر البريد فهذا يمكنه من ربح الوقت وإرجاء الأمر إلى حين، يدخل " ميري" إلى المنزل، يسلم على أمه ويتوجه كعادته إلى غرفته كأن شيئا لم يكن، يلقي جدته في طريقه فيبل يدها فتسلمه قسطا من النقود حيث كان دائم تفعل كلما قامت بزيارة بنتها، في تلك اللحظة امتلكت " ميري" رغبة مغادرة البيت، بل المدينة.
فكرت في الذهاب تخلصا من مواجهة أبويه عندما سيعلمان بطرده النهائي من المدرسة، على امتداد أسبوع كامل يحدث "ميري" صديقه حول مشروع هروبه من الدار ويقترح عليه مرافقته إلا أنه رفض معلنا استعداده لمساعدته كلما دعت الحاجة لذلك.
استمر " ميري" على علاقته بياسمين، فكر في التوجه إلى مدينتها عوض أي مدينة أخرى قصد الاتصال بها وعرض مشروع سفرهما معا بعيدا عن العائلة.
استمر " ميري" على علاقته بياسمين، فكر في التوجه إلى مدينتها عوض أي مدينة أخرى قصد الاتصال بها وعرض مشروع سفرهما أي مدينة بعيدا عن العائلة.
يصل القطار إلى المدينة المعلومة، يقضي " ميري: بالمحطة بجوار إحدى العائلات القابعة بركن م أركان قاعة الانتظار، يستلقي على الكرسي الخشبي المتهاوي ويستسلم للنوم، يحلم بأبويه، يتصورهما قلقين…. لم ينجح في إقامة أي جسر للتواصل بينه وبينهما، لم يسبق أن خيم جو الثقة بينه وبين أبيه على الخصوص….. ينام والدموع في عينيه.
يستيقظ باكرا، يغسل أطرافه في مرحاض المحطة النتن، ثم يتوجه إلى بقال، يقتني نصف خبزة مدهون بقليل من الزبدة ونصف لتر حليب مبستر، يتناول فطوره واقفا بسرعة ويتجه إلى الحي الكائن به منزل ياسمين، يتسمر برأس الدرب وينتظر بزوغ هلاله، رفيقته في المسيرة المرتقبة.
يبدوا له باب الدار حديث الطلاء والجدران نظيفة، يثير انتباهه زر الجرس الكهربائي، يمتلكه قلق عندما بدا له المظهر الخارجي للدار كعلامة على أن القاطنين به محميين من لسعات الحاجة والفقر والحرمان، تخر ياسمين متوجهة إلى المخبزة، يتبعها وينادي عليها: - ياسمين… ياسمين.
تلتفت، - آه….. ماذا تفعل هنا؟
– جئت لأراك و…..
– جئت لتراني أنا …..
– نعم….. كذلك لآخذك معي، إنني هربت من الدار وأريد أن ترافقينني …. سنذهب معا…. أنا وأنت .
– - أنت أحمق
– لماذا؟
– أتريد أن يقتلني أبي…..
– …………………………
يعود " ميري" في الغد إلى نفس المكان بعد قضاء ليلته بالمحطة، ينتظر ظهور ياسمين، …. يكلمها ويدور بينهما نفس حديث البارحة.
تقفل في وجهه كل الأبواب ويضطر للعودة من جديد إلى مدينته بعد أن خلصه حديثه مع ياسمين من أحلامه … يتوجه إلى المحطة ويمتطي القطار المتوجه إلى مدينته.
يرجع " ميري" إلى المنزل مطأطأ الرأس، ويلقاه أبوه على الباب، - عدت أيها المغامر…..
بعد العقاب والسباب اليومي المتواصل، قرر الأب تسجيل الفتى بإحدى مراكز التأهيل المهني وكان لزاما على " ميري" قبول ما اختاره والده له.
في البداية حاول صعود العقبة مستسلما استسلاما " سيزيف" لقدره… واظب على حضور الدروس وحاول جاهدا الاهتمام بها.
بعد مدة يتغير الحال…. الكذب على الوالدين …. المشادات والشجارات….. الهروب من حصص الدرس للذهاب إلى السينما أو لمقابلة صديقه للتوجه إلى منازل بيع الهوى، كان الأب قد سمح لميري بالاستقرار بمراب السيارة الكائن بجانب الدار، والذي حوله إلى غرفة خاصة به، كونت عالمة الخاص ومنطقته المحررة.
أضحى " ميري" يلتقي بأصدقائه هناك للسكر واغتيال الوقت، كل واحد منهم كان يتكلف بإحضار إحدى مستلزمات السهرة، واحد يأتي بالخمر وآخر يتكلف بالآكل والسجائر وأحيانا بعض الممنوعات وثالث يسعى للبحث عن فتاة تائهة يعرض عليها سقفا لقضاء الليلة ….. وماداموا لم يكونوا يتوفرون على نقود كافية لسد حاجياتهم، فقد اجتهدوا اجتهادا للحصول عليها، وفي حالة التعذر لجئوا إلى الطرق غير المشروعة لبلوغ الغاية، ومرارا كانت تحدث بينهم مشادات بسبب فتاة أو آخر كأس خمرة، واعتادوا بعد إفراغ آخر قنينة التوجه إلى وسط المدينة للسطو سيارة قصد التفسح والفسحة عبر الشوارع.
يستدعي مدير المركز الأب ويخبره بغياب ابنه المتكرر وبنتائجه المخجلة ويبلغه بقرار طرده من المؤسسة.
….. تمر الزوبعة ويتوصل الأب للعثور على عمل لأبنه بمتجر كتان كمساعد تاجر، منذ الوهلة الأولى قرر "ميري" عدم الإطالة هناك اعتقادا منه أن قبوله لهذا الشغل سيجعله يعيش في الظل بعيدا عن الشمس كما كان يحلم دائما، بدأ يصل متأخرا إلى مقر العمل يبادره صاحب المتجر قائلا:
– اليوم أي كذبة ستبرر بها تأخرك، لقد قتلت ودفنت كل أقاربك، فمن مات يا ترى اليوم أو البارحة؟
– أراد "ميري" أن يجيبه ويقول " اسكت يا وغد إن ساعة تأخير لن تغير شيئا، ألا تحتسب الساعات الليلية الإضافية التي أقضيها بالمحل، أليس ذلك تأخرا هو كذلك؟" إلا أنه قد تعلم أن من يوجد في أسفل السلم وجد لتحمل الإهانات والصبر على العتاب وتقبل الملاحظات ولا حق له في التوضيح أو التصحيح.
ذات يوم أمر التاجر أحد عمالة يحمل علبا ثقيلة فرض فطرده على التو، وتوجه إلى " ميري" للقيام بالمهمة فرفض هو كذلك قائلا ( دون أن يترك له فرصة النبس بكلمة).
– بالنسبة لي فلا داعي لطردي وأنا ذاهب بمحض إرادتي حاول الأب إرجاعه إلى عمله إلا أن الفتى صمم على الرفض أصبح " ميري" كل سبت يجتهد اجتهادا، مشروعا وغير مشروع، لتوفير المال الكافي يمكنه من ولوج إحدى الصناديق الليلية، دأب على هذا الحال أكثر من شهر وتعرف على فتاة فتيات الليل، كانت سمراء لا تغادر حلبة الرقص إلا بعد إلقاء شباكها على ضحية الليلة، نظر إليها ونظرت إليه، وبعد لحظة توجهت نحوه وقالت:
– ألا تدعوني لشرب نخب معك؟
لم يكن يعرفها ولم يسبق أن رآها، يحملق فيها مبتسما ويقول: - لماذا؟
تمد يدها وتمسك معصمه وتجره إلى" الكونطوار: قائلة:
– ….. لأول مرة تأتى إلى هنا؟
– لا…. لكن لا آتي مرارا……
– تتساؤل لماذا قصدتك، أليس كذلك؟
– نعم هذا ما يشغلني اللحظة
لسبب بسيط، أريد التخلص من شخص ثقيل ولا نقود له، رأسماله الكلام والكلام فقط ولا شيء إلا الكلام.
…. يقضي معها " ميري" الليلة في نزل مريب، وقبل فراقه تقول له:
– هل هناك أمل لنلتقي ثانية؟
يجيبها ببرودة بادية:
– إذا رغبت في ذلك؟ ترد عليه بسرعة:
– إذن أنت تعرف أين تلقاني…. في نفس المكان كل ليلة ماعدا الاثنين.
– هل الاثنين يوم عطلتك؟
– لا، ولكن هي بداية الأسبوع وليس هناك زبائن لذلك يقفل المرقص أبوابه.
– آه…. لكن لم تخبرينني باسمك لحد الآن؟
– واختر أي اسم تريده وسيكون اسمي…..
– ألا تريدين أن أتعرف على اسمك ؟
– وإذا ذكرت لك اسما فهل ستثق بي؟
– ولماذا لا؟
– فما هو أحب الأسماء إليك؟
– اسمك أنت
– وما اسمي؟
– أنا لا أعرفه؟
– أتحبه حتى قبل معرفته؟
– لا يهم مادام هو اسمك
– لنفترض انه " أمل"
– حسنا يا"أمل"…. إلى اللقاء.
لم يعثر " ميري" على عمل واكتفى ببيع الجرائد والمجلات، يجوب شوارع المدينة بحزمه الجرائد المختلفة طول النهار للتمكن من بيع أكبر كمية ممكنة لأنه كان يتقاضى نسبة زهيدة من المد خول وكلما زادت مبيعاته زاد أجرة المزري، لم يستمر طويلا في هذه الحرفة لأنه فوجئ بندائه للقيام بالخدمة العسكرية الإجبارية.كان يعرف أن الجيش هو أولا وقبل كل شيء نظام وانضباطه صارم وانصياع للأوامر دون مناقشة ….. إذن لامناص له من تغيير تصرفاته ومزاجه لتفادي المشاكل، إلا أن ذلك لم يكن ليعفيه من الحبس الداخلي أو الحرمان من الرخص الأسبوعية أو الدورية.
في نهاية الخدمة العسكرية اقترح عليه مسؤول الاندماج ضمن الجيش قائلا له:
– لازالت شابا يا " ملاك" ولماذا لا تندمج ضمن صفوف الجيش، ستتعلم الكثير وستخدم بلادك أحسن خدمة يجيبه " ميري" بهدوء غير منتظر:
– أنت تعرف يا سيدي أنني غير منضبط ولا أستحسن الجيش، ما أحبه هو المغامرة لأنها تمنحني نوعا من القيمة الذاتية، أعرف انك ستعتقد يا سيدي أنني أحمق إلا أن المخاطرة تغريني، فالرجل في نظري هو الذي يستطيع التحكم في خوفه، فإذا كنت تعتقد أنني جندي جيد فهذا ليس راجع بالدرجة الأولى لوطنيتي بل بالأساس لحبي للمغامرة والمخاطرة، فخلال حياتي، رقم قصرها، عانيت مجالات وحالات لا تعد ولأي تحصى من الظلم والتعدي مما جعلني أعتقد أن حياتي مثل حياة السواد الأعظم لا قيمة لها في مجتمع لا يعترف بإنسانية الإنسانية.
– لا تتكلم هكذا يا ولدي، لاحق لك في عدم احترام الحياة، عليك يا بني البحث عن عمل للعيش، كما عليك تغيير نظرتك إلى الحياة و إلا سيكون مآلك الهلاك، كن متأكدا يا بني أن نظرتك للحياة ستؤدي بك مباشرة إلى السجن لأنك تعلن حربا ذاتية، ضد نفسك وضد المجتمع.يغادر " ميري" الثكنة متوجها إلى المحطة لركوب القطار المتوجه إلى العاصمة.
– بعد سنتين تقريبا من الخدمة العسكرية الإجبارية يستأنف الفتى الحياة المدنية ويعود إلى مدينته بأنوارها وروائحها وضجيجها، فمدة التجنيد غيرته جسمانيا تصلب عوده وتوقت عضلاته وازداد اضطرابا وقلقا وأصبح أكثر عنفا وعداء، عاد مستلبا عن ذاته.
يعمل بشركة للبناء بفضل تدخلات أبيه، يخرج كثرا ليلا يلتقي من فتاة من فتيات الليل، كل ليلة مع واحدة تاركا العواطف جانبا، لا يهمه إلا الغريزة الحيوانية.
يتعاطى للميسر والمراهنات على باق الخيول ولعب "اللوطو" ومن سوء حظه ربح قدرا ضئيلا من المال منذ الوهلة الأولى، مما شجعه على المداومة حتى أصبح يصرف أجره كاملا قبل الحصول عليه.
منذ رجوعه من الجيش سكن مع أبويه، ولا يمر يوما دون مشادة مع أبيه أو أمه أو إخوانه، ولم يبق له إلا مغادرة البيت العائلي، تسد في وجهه كل الأبواب ولم يعد يرى إلا الظلام ولولا شدة تشتبه بالحياة لفعل بنفسه فعلة.
لقد اعتاد ملاحظة ما يدور حوله، لاحظ وعاين وجوها حزينة ونظرات متعبة من اليأس، أناس أرهقتهم الحياة وهدتهم المشاكل، كائنات ملزمة بالجهد والكد اليومي للتمكن من سد رمق العيش لا تستطيع توفير الحد الأدنى للعيش الكريم، أناس محكوم عليهم بالاكتفاء بأقل من القليل مدى الحياة، ملابسهم متشابهة من شدة قدمها تشابه مشاكلهم المادية، أناس لا قدرة لهم على ضمان إشباع حتى أبسط الرغبات، أناس مرغمون على الحلم والحسرة أمام واجهات عرض الأزياء والأحذية الفاخرة ووكالات السفر والسياحة، أناس يعرفون مسبقا مستقبلهم لأن لا مستقبل لهم، يخشون القانون خوفا منه وليس احتراما له، كائنات مسحوقة، مهزومة، مغلوب على أمرها، عبيد من الصباح إلى المساء.
كان " ميري" يحس أنه واحد منهم بامتياز، لم يعد يطيق ظروفه، أراد أن يحيى دون أن يكون مرتبطا بالوقت وبالزمن، رغب أن يعيش دون النظر إلى ساعته لأنه يعتبر أن أول إكراه فرض على الإنسان حصل عندما شرع في حساب الوقت وإعطائه قيمة، إنه يريد أن يحيى حياته كاملة دون إكراه أو اضطر، والسبيل إلى ذلك التحرر من عبودية الوقت والزمان، كان المجتمع، لكن ما هو هذا المجتمع بمبادئه البراقة وقوانينه الوضعية المحكمة؟
فمنذ سن السادسة عشرة دأب هذا المجتمع على تهميش " ميري" هذا المجتمع غير المبالي بشباب الظل وبالأطفال المشردين وبالمعذبين فيه ركضا وراء لقمة العيش.
تساءل "ميري" عن نظرته حول السعادة واعتقاده بإمكانية الإنسان أن يكون سعيدا دون أموال كثيرة، يكفيه أن يحصل على رزق كاف بعرق جبينه وأن يكون له وقت فارغ لتحلوله الاستفادة من لحظات الراحة القليلة. إلا أنه يعرف حق المعرفة أنه ليس من طينة الذين يبحثون عن مثل السعادة. وإنه انتحر اجتماعيا وأصبح يحب الخمول ويكره المجهود، يهوى الشرب والمخاطرة ويعشق البنات، تجذبه الحياة الليلة والحانات المريبة، ما يهمه هو إشباع كل الرغبات دون صرف أي مجهود.
غادر "ميري" منزل والديه والتجأ إلى أحد أصدقائه، يدق على الباب، باب مسكن عادي.
– من هناك ؟
يفتح الباب ويبدو شاب طويل القامة حاد الملامح.
– ميري كيف أنت؟
– لقد غادرت الدار وسأمكث معك
– المحل محلك وأنت تعرف هذا جيدا
…حول طاولة ملئى بقنينات خمر وجعة قضوا جزءا من الليل في انتقاد المجتمع وتعرية مساوئه، ومع تقدم الوقت وبفعل الخمرة شرعوا في بناء مجتمع جديد، نقيض الذي يحملونه مسؤولية تهميشهم.
وبعد صمت يقول "ميري".
– لقد قررت التخلي عن العمل لأعيش حياتي كما يحلو لي يردف أحد أصدقائه قائلا:
– وأنا معك في كل ما تراه.
وقال الثاني: وأنا معكما
وتوجه "ميري" إلى الثالث مخاطبا: وأنت ماذا تقول ؟…
– لا رغبة لي في مشاركتكم، لكني أضل صديقكم مهما حصل.
هكذا يوم الاتفاق واستسلم كل واحد منهم للنوم.
في الصباح الباكر يشعر"ميري" بصديقه يتأهب للذهاب إلى العمل، يرفع من العبث الذهاب إلى العمـل في هذه الساعة المبكرة لربح سنتيمات قليلة معدودة لا تغني من جوع…ألم تغبر رأيك بعد ؟
يجيبه الصديق بثبات:
– لا يا حبيبي، افعلوا ما بدالكم وما شئتم، لكم طريقكم ولي طريقي، كل واحد حر في إتباع طريقه…ثم يضيف ضاحكا.
– ومن الأحسن ألا أشارككم حتى أتمكن من موافاتكم بالسلة في حالة دخولكم إلى السجن.
يودعه ويتوجه إلى عمله.
يقرر الأصدقاء الثلاثة السطو على فيلا، وكانت أول عملية لهم كللت بالنجاح وتلتها عمليات أخرى.
تنتبه "ميري" لصوت المفتاح الطارق على آليات الباب الحديدي السميك معلنا موعد الاستعداد للنداء العالم. ينهض الجميع، كل واحد يغادر سريره ويقف جانبه لتمكين السجان من تعداد نزلاء الغرفة تموه العملية بسلام ويعود "ميري" إلى السرير ويستلقي على ظهره. يفكر في مصيره، يقبله باقتناع ومنظور فلسفي خاص، كأنه سلسلة من حوادث سير متتالية منذ غادر الحب قلبه.
منذ اعتقاله لم يعان لنفسه ولكن عانى ويعاني من أجل من يحبهم ومن أجل الضرر الذي يلحق بهم بسببه.
ينظر إلى القضبان السميكة وتمتلكه ابتسامة ماكرة لأنه تخيل القضبان من ذهب وحتى لو كانت كذلك فإنه سيضل محبوسا وراءها، فالسجن لا يمكنه أن يكون إنسانيا حتى ولو تمظهر بذلك.
يشرع نزلاء الحي في مغادرة الزنازين متوجهين إلى ساحة الفسحة، فرادى وجماعات. وكان عددهم يفوق الثلاثمائة من مختلف الجنسيات ة الأوساط والطبقات والجهات والأعمار، منهم من ينتظر نحبه ومنهم من يعلم حكمه، أحكام تتراوح بين شهور قليلة وأكوام من السنين. بينهم صادف "ميري" حالات شغلت باله فانتهى به التفكير إلى الاعتقاد بعدم ملائمة: والعقوبات مع الجنح والجرائم المرتكبة حيث وجد أنها لا تبرر بأي وجه من الوجوه العقوبات إلا في حالات قليلة خلافا لما كان يعتقد، لذا بدأ يردد أن السجن هو مدرسة إجرام وتكوين مجرمين، لأن أغلب من هم فيه لا أمل لهم في الغد، ومادام الحال كذلك فلا طائل من وراء قفل أبواب الزنازين، فالخارج منها لا محالة أنه عائد.والداخلون إليها يتكاثرون أكثر من الخارجين منها.
بهذا المنطق اجتهد مصمموا بنايات السجون وتفننوا في جعلها تساهم في تحطيم الإنسان ونفسيته عوض الاكتفاء بحسبه، لأنه غير كاف حرمان من حريته، فلابد من تأليب حقده عوض دفعه لمراجعة نفسه، فحتى المرحاض تعمدوا لا يكون له بابا كاملا وإنما نصف باب لأن المسجون في اعتقادهم لاحق له في قضاء حاجته في خلوة مادام أنه أقل من إنسان فلم يعد له عورة رغم أن الدين الإسلامي يحث حثا على ستر العورة فماذا كان سيغير من الأمر خصصت أبواب كاملة للمراحيض عوض أنصاف أبواب.
فالعورة والحفاظ على سترها هو ما يميز الإنسان عن باقي الكائنات الحية، وما لا يجب نسيانه بالبتة هو أن السجين إنسان، والصفة الإنسانية هو حد لا يمكن النزول دونه، لذا أصبح " ميري" يتفهم عقلية نزلاء السجن، ضيوف آكل البشر، فالظلم والإهانات اليومية تدفع إلى القيام بأفعال لا يحمد عقباها وتصعد من حدة الكراهية للمجتمع والحقد عليه، وتفاديا لبلوغ هذا الحد فضل " ميري" تجاهل إهانات السجانين له، لقد اجتهد اجتهادا في هذا المضمار إلى حد قلب اللعبة، فيصبح الراغب في الاستفزاز هو المستقر والمستفز هو المستفز، يتصاعد غضبهم من جراء صيغ إجابات " ميري" التي كانت لا تخرج عن " نعم يا سيدي" أو " لا يا سيدي"، كان يقول ذلك بلسانه ويفكر عدا ذلك فحينما كان يتلفظ " بنعم أولا يا سيدي" كان لسان حاله يقول:" سترى لو حظيت يوما وواجهتك خارج السجن " سأرد الكرة من حيث لا تحتسب" ويضيف سلسلة من الشتائم لا يعلمها إلا هو.
فهكذا واقع السجن لابد من التفكير في طريقة للتعالي عليه لأن معايشة واقعه والخضوع لعقليته يعني قبول الاستعداد للرجوع إليه مادام النتيجة هي تصاعد الحقد على المجتمع.
هناك وراء القضبان التقى " ميري" بأناس ليس هناك سبب مقنع لرميهم في السجن، إلا أن المجتمع هذا هو حالة يرج ببعض أفراده في " مدرسة" إعداد المجرمين وتهيئهم للخروج عن القانون يجعلهم أعداد لدودين له نافرين من قوانينه ونظمه عوض أن يهيأ هم لخدمة والمساهمة في تقدمه عبر احتضانهم وإعطائهم فرصة الحصول على مكان تحت الشمس.
وبالفعل قد لاحظ " ميري" أن بعض النزلاء قد جعلوا المجتمع يؤدي ثمن لفظهم غالبا حيث أنهم رغم وجودهم وراء القضبان لا يعتبرون أنفسهم منهزمين ولكن يعدون العدة للانتقام من المجتمع وأفراده حال تخلصهم من الإقامة الإجبارية وراء الأبواب الحديدية السميكة.
يعود " ميري" من ساحة ويستلقي على فراشه مفكرا فيما سيفعله غدا في انتظار تاريخ الإفراج عنه، ونهاية ضيافته عند آكل بني البشر.