رواية لاجئة ـ الحلقة 7 من 18
أصبح سعيد في حياة ريم هو الحل لكل مشكلة ، و هو البطل الذي لا تقف في طريق تصميمه عقبة ، كانت تشعر تدريجيا أنها تسلم إليه طوعا قيادة دفة حياتها ، في الواقع كانت تريد أن تسلم هذه القيادة إلى أحد ما ، كان أبوها دائما هو هذا الأحد و لكن بسفره و ذلك الفراغ الذي تركه كان لابد لمن يملؤه أو حتى يملأ جزء منه ، و كان سعيد هو المستعد دوما لملء هذا الفراغ ، باتت تشعر أنها قادرة على منحه الثقة مطـــلقة ، تشـــعر أن عــهدا و رباطا بينهما مختوم منذ الأزل ليكــون هذا الشخص تحـــديدا هو منقــذها و حامــيها ، و ماذا بعد ؟
سألت نفسها مرارا إن كان تعلقها بكلماته ، وثقتها بأن في يده دائما حلول مشكلاتها هو الحب الذي يتحدث عنه الناس ، و تنتظره سوسن و يتأوه من أجله المغنون و المغنيات •• لكنهم يتحدثون عن لهفة الانتظار في غياب الحبيب و هي لا تشعر بهذه اللهفة ، يتحدثون عن الأحلام التي يسكنها الحبيب و هي لم تحلم به ليلة رغم وجوده المكثف في حياتها ، يتحدثون عن جمال الكون حين يكون الحبيب مع حبيبه و هي لم تشعر للحظة أن مشكلاتها اختفت و أن بيتها تحول إلى بستان حين رؤيته •• كل ما كانت موقنة به تمام اليقين ، أنها إذا احتاجته وجدته ، و إنها إذا ألمت بها مشكلة كان هو الوحيد الذي يخطر ببالها عندها ، و أنها أصبحت في داخله التزاما حتى هو لا يستطيع ــ إن أراد ــ أن يخلعه عن نفسه ، لسبب تجهله و تعتقد أن حتى سعيد نفسه يجهله ، كانت تشعر بهذا و لا شيء غير هذا ••
ووجد سعيد الحل كما وعد ، حمله ابتسامة في عيونه و هو يطالع وجه ريم التي فتحت له الباب بنفسها هذه المرة ، قرأت في عيونه أن الفرج قريب و عندما تحدث كان الفرج ليس ببعيد و إن لم يكن بكل القرب الذي توقعته :
– هما في الواقع حلان ، أولاهما إدارة الوافدين ، و عن طريقها يمكن حذف أو تخفيف المصاريف خاصة و الأم مصرية ، و الحل الثاني مكتب المنظمة و عن طريقه يمكن تقديم طلب ليدفعوا هم المصاريف نيابة عنكم ••
تساءلت الأم :
– وما مكتب المنظمة ؟
فقال الأستاذ سعيد :
– مكتب منظمة التحرير الفلسطينية ، إنه بمثابة القائم بأعمال الجالية الفلسطينية هنا و بسؤالي _ _ عرفت أن كثيرا جدا من الطلاب الفلسطنيين تعلموا عن طريقه ••
قالت ريم :
– لكنها كما تقول طلبات و قد تأخذ وقتا طويلا لحين البت فيها ••
قال سعيد :
– لقد فكرت في هذا الأمر و لدي حل له ، زيــارة إلى عميـــد الكلية نشـــرح فيها الظروف و الملابسات و نتعهد بدفع المصاريف على أن يتم اختبارك و تلتحقي بالقسم الذي تريدين و تواظبي على الحضور و لا تدخلي الامتحان إلا بعد دفع المصاريف ••
نظرت إليه ريم ممتنة و قالت :
– لقد فكرت في كل شيء ••
نكس رأسه و قال بهدوء ••
– ليلة البارحة ، لم أستطع النوم ، اعتدت على أمر لم يحدث فجافاني النوم و استحوذ علي التفكير ••
–
فقالت الأم باسمة :
– إذن الفضل في هذا التفكير الشامل هو الأمر الذي لم يحدث ؟
تطلع سعيد إلى ريم و سألتها عيونه :" لماذا لم يحدث ؟"
و أجابت عيونها :" كنت متعبة و حزينة "
فقالت عيونه :" ألست واحتك حين يقسو عليك الوجود ؟"
أشاحت بوجهها و لم تعط له الفرصة ليقرأ رد عيونها ••
قالت :
– و لكن أستاذ سعيد ، أليس من المحتمل أن يرفض عميد الكلية هذا الطلب ؟
أجاب :
– لن نخسر شيئا ، لقد كان ما أمامنا هو البقاء في المنزل و انتظار حل غيبي ، و الآن أمامنا فرصة قد تنجح ، و محاولات أخري قد تقدم حلا جذريا فلم القلق ؟
قالت الأم :
– لابأس ، غدا إن شاء الله نتحرك ، تذهبين يا ريم إلى الكلية و تحــاولين مـــقابلة العميد و شرح ظروفك له ، و أذهب أنا إلى إدارة الوافدين باعتباري الأم المصرية التي تريد تعليم أبنائها ، و أما مكتب المنظمة فليكن خطوة مشتركة بيننا بعد غد إن شاء الله ••
قال سعيد :
– سوف أصحبك يا خالتي إلى إدارة الوافدين ، أعتقد أن ريم بامكانها أن تعبر أفضل عن نفسها بنفسها أمام العميد ••
قالت الأم :
– لا يا بني يكفيك الأجازات التي أخذتها من عملك حتى الآن بسببنا ، وفقك الله و جزاك عنا خير الجزاء ، صف لي فقط المكان و سأذهب اليه بمفردي ••
– أولا يا خالتي لم آخذ أية اجازة من عملي ، مكتب المحاماة لي و أنا حر في الذهاب أو لا ، و ثانيا ، ليس بيننا هذا القدر من التكليف حتى تشكريني على أداء واجبي ، أم أنك مازلت تعتبرينني غريب ؟
– لا يا بني ، بل إنك أفضل من كثير من الأقرباء ، و لكن ••
و حسمها سعيد كعادته ، كلمته كانت الأخيرة ، ووافقت الأم و هي تدعو له ، فيما قالت ريم لنفسها :
– هذا هو سعيد الذي أعرفه ••
و كان اليوم التالي يوما حافلا لريم لم يخطر ببالها أبدا أن تمر فيه بكل ما مرت و لا أنها ستتعلم منه أهم درس لحياتها العملية ، فقد توجهت صبيحته لمقابلة العميد و انتظرت ساعة حتى سمح لها السكرتير بالــدخول و هنـــاك وقفت أمامـــه حائــرة من أين تبــدأ ؟ و تبخرت كل الكلمات التي ظلت طوال الليل ترددها و تحفظها و تختار أكثرها وقعا على النفوس ، استمهلها العميد لحظة لتستجمع قواها و عندما تحدثت فوجئت بحديث لا يشبه ما سبق و أن أعدته ، حديثا كان مباشرا و صريحا و مختصرا و بلا مقدمات ، شعرت أن وقته و هيبته لا تسمح لها بالسرد الطويل لذا فقد قالت :
– سيدي العميد ، أنا طالبة فلسطينية ، أريد أن أتعلم لكنني لا أملك في الوقت الراهن مصاريف التعليم التي تطلبونها ••
تطلع إليها العميد مليا ثم قال برفق
:
– نحن لا نطلب شيئا يا ابنتي ، إنها القوانين و الأنظمة ، و لا أملك حتى أنا العميد الغاءها أو التعدي عليها ••
فقالت بهدوء حذر ، خوفا من أن تسبقها دموعها كالعادة :
– لا أريد الغاءها ، أريد فقط تأجيلها ••
تطلع إليها بوجه لا يحمل تعبيرا و هز رأسه و كانت دموعها التي تحذرها قد خانتها فسقطت بمجرد أن نطق العميد بالرفض :
– لا استطيع ••
شعرت بالانكسار ••و كانت هذه هي المرة الاولى التي تشعر بالانكسار فيها ، شعور عميق يشبه أن تميد الارض و تنطبق الجدران و تتعمق المهانة و الشعور بالخذلان ، شعرت أنها قالت كل ما استعدت به و لم يستجب لها ، شعرت أنها أهرقت ماء وجهها و لم يلتفت إليها أحد ، كانت المرة الأولى التي تطلب شيئا و هي تشعر أن ما تطلبه إن تمت تلبيته سيكون من قبيل الإحسان •• انكسارها في تلك اللحظة كان يعني تضاؤلها أمام نفسها حتى الاختفاء ، عندما لمح العميد دموعها ، التفت إلى اوراق أمامه و قال لها :
– المقابلة انتهت ••
خرجت من عنده بأقدام لا تعرف كيف حملتها ، و برأس يهدر الخوف و الذل فيها و بعيون تدور و تمطر بغير أنقطاع ، خرجت بقلب مكسور •• مكسور ، كانت تستــند على الجــدران و تتعثر في خطوها ، لمحها السكرتير و قد كان يعرف طلبها فعرف ما أجيبت به •• ظلت عيونه ترقبها و هي تسير ببطء كان يتوقع وقوعها في أية لحظة لذا استمهل الدكتور طارق الذي دخل في هذه اللحظة لمقابلة العميد و أشار إليها لينبهه أن شيئا ما سيحدث الآن ، و حدث بالفعل ما توقعه ، للحظة شعرت ريم أن ظلام أسود يزحف بسرعة في رأسها ، و شعرت أن نافورة دم تدق جمجمتها تريد أن تكسرها ، و شعرت بالأرض تميد بها فسقطت مغشيا عليها ••
عندما أفاقت ريم وجدت نفسها على سرير صغير ، في حجرة ضيقة بها طاولة وحيدة عليها بعض المعدات الطبية ، كانت الغرفة خالية ، حاولت استجماع قوتها للنهوض لكنها لم تستطع و اكتشفت أن محلول معلق لتغذيتها ، تساءلت عن مكانها و تذكرت ما حدث لها ، تذكرت فأسقطت نفسها على الوسادة مجددا و شرعت في بكاء صامت ••
لم يطل الأمر فقد دخل الطبيب و معه الدكتور طارق و بادرها :
– ها هي طالبتنا قد أفاقت ••
نظرت إليه و لم تستطع الرد بسبب العبرات التي سكنت حلقها المتعب ، و تحدث الدكتور طارق فقال:
– أنت هنا في عيادة الجامعة ، نقلناك قبل قليل ، يبدو أنك متعبة •• لماذا جئت اليوم إذا كنت بهذا التعب ؟
مرة أخرى لم تستطع الرد ، فجلس الطبيب بجوارها و أمسك رسغها و عد نبضاتها ، ثم أقفل علبة المحلول المعلق و انتزع الحقنة المغروسة في أوردتها و قال:
– اطمئني ، إنك الآن أحسن حالا ، امسحي دموعك و اشربي هذا العصير و ستكوني بخير ••
بعدها ناولها كأس عصير بارد ، مدت يدا مهزوزة و استلمته و شـــــكرته بعيونها ، و بعد الجرعة الأولى وضعت الكأس و قالت بصوت ضعيف :
– الحمد لله ، أنا الآن احسن حالا ، أشكرك ••
أشار الطبيب على الدكتور طارق و قال :
– الدكتور طارق ، أستاذ في الجامعة ، هو من حملك إلى هنا ••
نظرت إليه امتنانا فقال مبتسما :
– أنت خفيفة على أية حال ••
ابتسمت عيونها المبللة فقال الأستاذ :
– أنت طالبة مستجدة أليس كذلك ؟
تنهدت و قالت :
– كنت ••
و سألها فاجابت و عندما عرف الموضوع ابتسم و قال :
– سوف أساعدك يا ريم ، سأذهب الى العميد و أشرح له الموقف و اعتقد أنني سأتمكن من اقناعه •• انتظري هنا ••
انصرف قبل أن تتمكن ريم من استيقافه أو منعه ، هي لا تريد المزيد من الذل ، يكفيها ما حدث •• لكنه ذهب ، و حاولت النهوض ، فقال الطبيب :
– على أقل من مهلك ، الدكتور طارق إذا قال فعل ، و هو صديق الطلاب ، يعتبرونه واحدا منهم ، كما ترين هو صغير السن ، لكنه نابغة و لــه حــس فني راق اكــثر مما تتوقعين •• و لعل هذا سر إحساسه بالناس أيضا ••
أومأت برأسها تفهما و أكملت نهوضها و قبل أن تنتهي من تسوية هندامها سمعت ضجة خلف باب العيادة و فتح الباب فدخل ثلاثة من الشباب يحملون شابا مصابا ينزف الدم من رأسه ، أسرعت ريم مبتعدة عن الفراش ، فارقدوه عليه و تحدثوا معا ليشرحوا ما حدث ، فلم تفهم منهم شيئا و الطبيب بدوره لم يلتفت لما يقولون و اندمج سريعا في عمله يعاين الجرح و هو يردد :
– إلى متى ستظل أرعن يا أحمد ، متى تتخلص من رعونتك و طيشك ، ناوليني القطن يا ريم ••
لم تتوقف ريم أمام الطلب الغريب و لا لهجة الأمر التي تحدث بها الطبيب و أسرعت فورا لتلبية طلبه فتراجع الشباب للخلف فقال الطبيب :
– اخرجوا جميعا ، سيكون بخير مجرد جرح بسيط ، هاتي ماءً يا ريم ••
خرج الشباب و أحضرت ريم الماء ، أعطته للطبيب الذي بدأ يغسل الجرح و الدم عن وجه أحمد بسرعة و دراية ، ثم طلب من ريم عدة طلبات حتى انتهى و قد غطى الجرح و عــقمه و كان أحمد في كل هذا صامتا مستسلما ليد الطبيب و لتقريعه له ، لا يفعل إلا أن يتألم للحظة ثم يعود للصمت ، و عندما انتهى الطبيب نظر أحمد إلى ريم و همس للطبيب مبتسما :
– من هي ؟
نظر الطبيب إلى ريم و فجأة اكتشــف أنه استــعان بها في عمله دون أن ينتبه ، فابتسم و قال:
– ريم •• أنا آسف ، هل أزعجك العمل معي في علاج هذا الأرعن ؟
هزت ريم رأسها و ابتسمت و هي تقول :
– لا ياسيدي الطبيب ، بالعكس لقد أسعدني أني استطعت المساعدة
قال الطبيب و هو ينهض لتحيتها :
– هذا أحمد ، سيد الطيش في هذه الكلية ، لا أدري كيف قبلوه فيها و هو لا يملك أي حس فني ، مهارته كلها في أن يضرب الناس و يضربوه ••
قال أحمد :
– كفى يا دكتور سامي ، لقد اوسعتني تعنيفا منذ دخلت كما أنك قدمت تعريفا مغلوطا للآنسة و لم تقدمها لي ، فهلا فعلت ؟
فقال الدكتور :
– قدمي نفسك له يا ريم ، فلن يهدأ حتى يعرف ••
و تقدمت ريم باسمة منه و قالت له اسمها ، وشرحت أيضا ما حدث معها اليوم و ظروفها ، كانت تتحدث معه بطلاقة عجبت لها ، حتــى أنها أخـــبرته بمــشاعرها أثناء لقاء العميد و بعدها و هو الأمر الذي لم تخبر به طارقا رغم تحمسه لها ، استجابت لردوده المرحة فابتسمت و شعرت أن الموقف لم يكن يستحق كل هذا العناء و عندما ضحك أحمد و هو يتحسس جرحه و قال :
– سوف تعتادين على مواقف الطلب و الصد و الرفض أو القبول ، إنها الحياة العملية التي تدخلينها للمرة الاولى فحاولي أن تكوني أقوى ••
عندما قال هذه العبارة تلاشت تماما مشاعر الهزيمة داخلها ، و شعرت بالتفاؤل و قررت انها لابد أن تقاتل لتحصل على ما تريد و عليها ألا تستسلم لكل شعور بالحزن قد تجده في نفسها ، قالت لأحمد هذه الكلمات فبادرها مبتسما و هو يحاول النهوض :
– أحسنت ••
أوقفه الطبيب و قال :
– ليس قبل أن تكمل محلول ريم ، سأبدل الحقنة و أغذيك بما تبقى فلقد نزفت الكثير ••
تطلع أحمد للطبيب و هو ينفذ ما قـــال و نظــر للمحلول الــذي يقــــطر ببطء في أوردته و قال باسما :
– الآن بيننا محلول يا ريم ، صرنا عِشرة !!
طرق الباب و دخل الدكتور طارق الغرفة مبتسما و عندما رأى احمد قال :
– آه •• هذا أنت ، كم طالبا ضربت اليوم ؟
قال أحمد :
– مظلوم و الله يا دكتور طارق ، لقد اصطدم رأسي بحاجز الشرفة و شج كما ترى دون قصد ، و في الحقيقة فإنني كنت متجها لضرب سمير لولا هذا الحادث الصغير ••
التفت الدكتور إلى ريم و قال لها :
– أبشري يا ريم ، لقد تحدثت مع العميد و أقنعته فطلب أن تقدمي لرئيس شئون الطلاب طلبا تتعهدين فيه بعدم دخول الامتحانات النصف سنوية ، أو النهائية ، إلا بعد دفع المصاريف ، و سيعتمد الطلب بمجرد إحالته إليه ••
– حقا ؟
زغردت الفرحة في عيون ريم ، و شعرت بسعادة فائقة ، و كأن الايام ستصالحها ، شعرت بألفة قوية مع هذا المكان و هؤلاء الأشخاص الذين أحاطوها بالاهتمام و فرجوا كربتها ••لم تستطع الكلام ، اكتفت بنظرات الامتنان ووصلت نظراتها للجميع فبادلوها ألفة و مودة و ابتسام ••
أخفى الدكتور طارق خلف أبتسامته أمتعاضا يشعر به منذ أن بدأ الحديث مع العميد •• فوجيء تماما بما لدى العميد من نظرة متعنتة غير قابلة للمرونة ، حاول أقناعه بأن الطالبة مقبولة و يمكن التصرف في موضوع المصاريف بالتأجيل ، فقال العميد :
– و لماذا تدرس إن كانت لا تملك ؟ نحن لسنا ملجأً للمحتاجين ••
– لكنها لا تطلب صدقة •• تطلب تعليما ••
– ليس من حقها •• أنها فلسطينية •• أولى بمقعدها طالب مصري ••
صاح الدكتور طارق غير مصدق ما يسمع :
– ما هذا المنطق ؟ لو تحدث به شاب لا يعرف التاريخ لعذرناه ، و لكنك أنت سيادة العميد ، هذا أمر لا يصدق ••
فقال العميد على الفور :
– هذا لأني أعرف التاريخ ••
فقال الدكتور طارق بلهجة قوية :
– و التاريخ لن يغفر لك أنك حرمت طالبة عربيـــة من التعلـــيم لمجــرد أنها فلسطينية •• و يوما ما ستكبر ريم و يصبح لها صوت لأي سبب و عندما يسألونها عن نقطة السواد في حياتها فستذكرك أنت ••
لم تعد ريم إلى منزلها إلا بعد أن قدمت الطلب إلى مــدير شئــون الطلاب بعد أن كتبته و نسقته بمساعدة الدكتور طارق و الطالب أحمد ، و عندما استلمه الموظف و كاد يرفضه هاتفه الدكتور و أبلغه أمرا فقبل الطلب على الفور وأعطى موعدا لريم بعد ثلاثة أيام لمعرفة الرد ••
و في المنزل كانت الام تتحدث لريم عن دمــاثة أخـــلاق سعيد و وقـــوفه الـــكبير بــجانبها و مساعدته الكبيرة لها في تذليــل كافة الــعقبات أمام تقديم الطلب إلى الأدارة و كانت تقول :
– تعرفين الروتين الحكومي ، و الشروط التي يجب أن تستوفى و صـورة جــواز الــسفر و عقد الزواج ، و غيرها من أمور لا أحد يعلم غير الله ماذا كنت سأعمل إزاءها لو لم يكن سعيد معي ، ناهيك عن أني وجدت من تخبرني أن الطلب لن يقبل لأن الزوج يعمل بالخارج •• حتى أنني صحت فيها ان تكف و ••
لاحظت الأم أن ريم كانت تستمع بنصف تركيز فقالت لها :
– ما بك يا ريم ؟ هل مازلت تفكرين فيما حدث مع العميد اليوم ؟
هزت ريم رأسها و ابتسمت لأمها لطمأنتها و قالت :
– بل أفكر في أمر آخر يا أمي ، تعبير جميل قاله أحمد ففتح لي عالم جديد ، و قدم لي رؤية جديدة للحياة ••
– أي تعبير هذا ؟
قالت ريم و هي تحاول أن تستخدم نفس عبارة أحمد ما استطاعت :
– لقد قال لي :" سوف تعتادين على مواقف الطلب و الصد و الرفض أو القبول ، إنها الحياة العملية التي تدخلينها للمرة الأولى فحاولي أن تكوني أقوى" هل تعرفين يا أمي كم أنني كنت غائبة عن هذه الحقيقة ؟
هزت الأم رأسها و قالت :
– أمر طبيعي إن الوضع الآن اختلف ، و إن الامور لا تؤخذ بكل هذه الحساسية ، و صدق أحمد فيما قاله من أن الحياة العملية ستعرفك و تريك ما لم تكوني تعرفي ، و عندما تدخلين الحياة العملية الكبرى بالعمل و الزواج ستنفتح أمامك عوالم أخرى ما زالت مغلقة ••
– شعرت يا أمي كما لو كنت صغيرة و كبرت فجأة ، أحسست بأنني أتلمس عالما جديدا بروح قديمة لا تحتمله و لابد من خلع هذا المعطف المستكين و ارتداء المعطف الواقي ، معطف نسيجه من اللامبالاة ، و الصبر و الإلحاح و التملق و القــوة ، و لا أدري بالضبط يا أمي إن كان المعطف الجديد سيناسبني أم أنني سأبدو فيه غير ما أنا ؟
قالت الأم :
– الناس تبدل معاطفها تبعا للظروف ، و لكن الناس لا تبدل نفسها لأي سبب ، و إذا كان تبديل المعطف ضرورة للتعامل مع الحياة الجديدة ، فاحرصي كل الحرص على آلا يطال التبديل و التغيير روحك أيضا ••
تطلعت ريم إلى أمها •• حكمة عظيمة قالتها ، و تعبير جميل استخدمته ، لكنه درس ثقيل تعلمته ، حملها تبعات كبيرة و ألبسها ثوبا كانت غير مستعدة لارتدائه ••
صبيحة اليوم التالي ذهبت ريم بصحبة أمها و سعيد إلى مكتب المنظمة ، و مضى وقت طويل فيه استغرق كل تفكير ريم و انتباهها ، فلم تلاحظ سعيد و هــو يحوطها بــنظراته و اهتمامه في كل خطوة ، و بدت الاجراءات طويلة و ساعات الانتظار مملة ، و في النهاية عندما تم تسجيل الطلب ، كانت الساعة قد شارفت على الثانية بعد الظهر ، عندها فطنت ريم إلى أن سعيد لم يذهب إلى عمله ، و أنه بقي معهما كل هذه الوقت ، نظرت إليه بعد أن عرفت الساعة و قالت :
– أستاذ سعيد ، لقد ظلـمناك معنا اليــوم ، أنت لم تذهــب إلى عملك ، لابد أن أمورا كثيرة تعطلت بسببي
ابتسم سعيد و قال :
– لا داعي لتحميل نفسك ذنبي أنا سعيد لأنني معكما ••
ابتسمت و قالت :
– لا أنت سعيد لأن أباك سماك هذا الأسم ••!!
فوجئت ريم بتعليقها كما فوجيء سعيد ، و ربما أكثر منه ، فها هي المرة الأولى التي تخرج فيها عن نطاق الحديث الجاد معه ، و تدخل إلى منطقة لم تكن تتوقع يوما أن تدخلها معه ، هكذا بمنتهى البساطة وجدت نفســها مشبعة بــروح المرح رغم اليــوم الحار و الاجراءات الطويلة ، و ربما لم تلاحظ الأم فقد كانت عبارة قصيرة ، إلا أن وقعها في نفس سعيد كان عظيما ، كان يعني له بدء إنهيار جبل الجليد الذي يتعامل من خلاله معها ، فرغم الابتسام الليلي المتبادل إلا أنه لم يسمع منها يوما عبـــارة تنبيء عن الحميمية ، أو تخبره أنه صار قريبا منها ، لذا تسمرت عيونه عليها ، تنازعه آلاف الرغبات في أن يضمها شكرا على هذه العبارة المرحة على قصرها ، و بدورها سكتت ريم ، و لكن ما كان يعتمل داخلها مختلف تماما عما كان يظنه سعيد ، لقد شعرت في هذه اللحظة بانهيار حائط الحذر بينها و بين الناس جميعا و ليس مع سعيد فقط ، شعرت أنها تحررت من لجام حديدي كانت تلجم به نفسها ، و شعرت أخيرا بالامتنان لأحمد ، ذلك الشاب الذي رأته لمرة واحدة فأستطاع أن يغير فيها الكثير لذا ابتسمت ، ابتسم الجميع و لكن افكارا مختلفة كانت تسبح في أدمغتهم ، و ربما في قلوبهم ••
كان يتعين على ريم أن تستيقظ مبكرا صبيــحـــة يوم ذهـــابها للجــامعة لتعرف النتيجة ، و لكن الام فوجئت كثيرا عندما دخلت غرفتها في الثامنة و النصف لتجدها غارقة في النوم ، كانت تبدو هادئة و بدت لأمها في تلك اللحظة راضيــة ، هكذا استشعــر قلب الأم و قلما يخطيء ، شعرت أن تجعيدات خفية على وجه ريم قد اختفت ، و أن راحة ما تلفها في هذه اللحظة ، ابتسمت ، على أنها ما لبثت أن سارعت بايقاظها ، هزتها برفق ، ففتحت ريم عيونها بهدوء و همست و هي تبتسم :
– صباح الخير يا أمي ••
ابتسمت الام بدورها و قالت لها :
– صباح الخير يا حبة العين ، متأخرة اليوم ، هل نسيت الجامعة و ميعاد مدير شؤون الطلاب فيها ••؟
ابتسمت ريم و تمطت بكسل و قالت و هي تنهض نصف نهوض :
– لا •• لم انس ، لكنني لست مرتبطة بموعد دقيــــق معه ، لذا فلا مانع من الذهـــاب الآن أو بعد ساعة ، أو حتى بعد صلاة الظهر ••
نظرت إليها الأم مندهشة و قالت :
– ليس من عادتك مقابلة الأمور بهذه البساطة ، أين هي العجلة ؟
– العجلة من الشيطان يا أمي ••
– و اللهفة ؟
– لن آخذ إلا نصيبي ••
– و رهبة الوقوف أمام المدير و سماع صوته الأجش ؟
– لن يقبض روحي على أية حال ••
– ماذا حدث ؟
أخذت منشفتها و توجهت للحمام و هي تقول لأمها بصوت عال مرح :
– لا شيء •• لقد بدلت معطفي ••
سارت الأمور على هذا النحو من البطء و المرح و اللامبالاة حتى شارفت الساعة على العاشرة و مازالت ريم لم ترتد ملابسها ، نظرت إليها الأم غاضبة و قالت :
– ريم •• ليس من معنى لما تفعلينه سوى أنك تخليت عن الحلم الذي تغرب والدك من أجل تحقيقه ••
انتبهت ريم و نظرت بدهشة لامها و دق قلبها بشدة ، همست :
– أبي ؟
هزت الأم رأسها ، ثم نظرت إلى ساعة الحائط فشاركتها ريم النظرة و قامت من فورها ، ارتدت ملابسها و تأهبت للخروج و عندما خرجت إلى أمها في الصالة قالت و هي منكسة رأسها :
– أمي •• أنا لم أنس أبي ، و لا نسيت تضحيته هذه ، و هو عهد قطعته على نفسي و لن أنكص فيه إن شاء الله ، اطمئني ••
تقدمت منها الأم و احتضنتها بتفهم و قالت :
– لا يطمئن إلى الغد إلا من يخدع نفسه ، لا يطمئن إليه إلا الكسالى الذين لا موقع لهم تحت الشمس ، أما أولئــك الذين لديهم هـــدف فيجــب أن يحاربوا الدنيا للوصول إليه ، و عندما تعتريهم لحظات فتور ، يجب ألا تطول فالدنيا لن تنتظر ••
هزت ريم رأسها إيجابا و غادرت المنزل ••
كانت عبارات أمها قوية بالقدر الذي يحتاج إلى التفكير العميق ، كانت متناقضة في مجملها مع نصيحة أحمد لها و عندما أمعنت النظر في الموقفين و الاتجاهين ووجدت أنها تركن اليهما معا و تكاد تكون مقتنعة بهما معا قررت أن تتخذ طريقا وسطــا يجــمعهما و يمزج بينهما في طريق الوصول إلى الهدف ، و عندما وصلت الى هذا القرار بعد طول تفكير كانت أيضا قد وصلت إلى الجامعة ، و في طريق صعودها للدرجات الطويلة التي تفصلها عن طابق المكتب الذي تريد وجدت من يستوقفها ، كان أحمد واقفا مع مجموعة من الشباب بنات و أولاد ، و كان يبدو عليهم جميعا الألفة و المرح بادرها احمد بصوت عال :
– ريم ، هذه أنت ؟
– تطلعت رليه و ابتسمت و سارعت بالرد :
– نعم •• هذه أنا ••
– تعالي سأعرفك على شلة الشغب الجامعي ••
– صعدت الدرجات الباقية بسرعة فأصبحت في مواجهتهم جميعا ثــلاثة شباب و شــابتين و الجميع كان يبتسم مرحبا بها ، عرفها أحمد على أسمائهم ، فرسخت فورا في ذاكرتهــا و اكتفى بأن يقول عنها :
– أما هي فريم التي حدثتكم عنها ••
قالت سمر و كانت أقربهن إليها :
– أهلا ريم ، ننتظر انضمامك إلينا في أسرع وقت ••
و قالت هدى :
– عن نفسي سوف أساعدك بما فاتك من محاضرات ، فأنا أحسنهم خطا ••
و قال سمير :
– مرحبا يا ريم ، الجامعة نورت ••
و قال فؤاد :
– لا تبدين كفلسطينية ، إنك تشبهيننا ••!!
هزت رأسها عجبا و تحفزت للرد فقال أحمد :
– لا عليك ، لقد قطعت ذيلها و اقتلعت عينها الثالثة !!
فقال محسن :
– قصد فؤاد أن يؤكد أنك صرت منا بالفعل و بين أهلك ، لكنه لا يحسن التعبير ••
ابتسمت ريم للجميع ، و كانت ابتسامة فرحة ، ابتسامة أمل جديد ، و غد أفضل •• عادت تتصفح وجوههم و تستشعر ابتساماتهم المرحبة في قلبها ، فقال أحمد :
– هل قابلت الأستاذ شاكر ؟
هزت رأسها نفيا فقال :
– إذن تعالي •• سارأفقك ••
و عند الأستاذ شاكر مدير شؤون الطلاب سارت الأمور على النحو المتوقع ، فلقد ، استمهلها لوقت ينهي فيه ما أمامه و يبحث عن طلبها ليعطها الرد و تعمد الانشغال فترة أطول مما يجب و في النهاية مد يده بالورقة و قال من تحت نظارته :
– لقد وقع عليها العميد بالقبول على ألا تدخلي الامتحانات إلا بعد دفع المصاريف ••
مدت يدها لتأخذ الورقة فانتشلها أحمد بسرعة و قال:
– هذا هو المطلوب يا حضرة المدير •• هيا يا ريم المناسبة تستحق احتفالا صغيرا ••
خرجا من الغرفة ، و لم تدر ريم ماسر هذا الاهتمام من أحمد بالموضوع و كأنه موضوعه ، راقبته و هو يمسك بالورقة يديرها بين يديه و يسير شبه راقص إلى حيث تقف شلة الشغب الجامعي و يقول لهم و هو يهز الورقة أمام عيونهم :
– الموافقة الكريمة صارت معنا ، ريم صارت معنا قولوا مرحبا لريم ••
و تعالت أصواتهم بالتبريك و التهنئة و نزل الجميع الدرجات قفزا و ساروا باتفاق غير معلن نحو استراحة الجامعة ، و كانت هي المرة الاولى التي تدخلها ريم ، و اتخذوا مقاعدهم حول طاولة مستديرة و صفق أحمد قائلا للنادل :
– أفضل مشروب لديك يا ولد ••
فقال النادل مبتسما :
– وجه جديد ••
فقال أحمد :
– بل زميلة دراسة مستجدة ، والدها في السعودية ، اخــدمها جيدا و لن تنساك بالبقشيش ••
– من عيوني ••
في أجواء المرح استطاع الزملاء الجدــد أن يدخــلوا عــلى ريم الفرحة و الشعــور بالأمان ، و ناقشوا معها الخطوة الجديدة التي ينبغي أن تقوم بها ، و حذروها أن من سيختبرها هو الدكتور محمد ، رجل شديد ، ينبغي الاحتياط لمقابلته و حدثوها عن ماهية هذه المقابلة الشخصية و كونها ستحدد مستواها و ما إذا كانت تستطيع الالتحاق بقسم الفنون التشكيلية أم لا و علق أحمد :
– و لكنني متفائل على أية حال ، فبوسع ريم أن تقنع الدكتور محمد بموهبتها بكل سهولة ••
فقالت هدى بسرعة :
– و كأنك تعرف شيئا عن موهبة ريم ؟
فرد أحمد على الفور قائلا :
– لا •• و لكنني أعرف ريم ••
فيما بعد ، عندما دخلت ريم إلى مكتب الدكتور محمد لمقابلته ، كانت تعرف أن اثنتي عشرة عينا تتطلع إلى الباب الذي دخلت منه للتو في انتظار النتيجة التي ستخرج بها ، فقد استقبلتها شلة الشغب الجامعي و اصطحبتها مع لوحاتها التي اختارتها من مجموع ما رسمت إلى مكتب الدكتور محمد و تركوها تدخل بعد أن حصنوها بكل النصائح اللازمة ، و قال أحمد في النهاية :
– و على أية حال فلا داعي للخوف فهو لن يقبض روحك ••
وقفت أمام الدكتور بهدوء فأشـــار لها بالجـــلوس و شـــرع في طرح أســئلة عادية عليها ، و فوجئت أن معظم الأسئلة كانت تنصب على القضية الفلسطينية و تفاصيلها و موقفها الشخصي منها و غير ذلك ، فكانت تجيب قدر استطاعتها ، و إن بدا أنها في عزلة تامة عما يحدث هناك ، و بعد قليل اكتشفت هي أنها لا تعرف عن قضية بلدها سوى ما يعرفه كل طفل في العالم و شعرت بالضحالة فصمتت فجأة ، ثم رفعت عيونا لامعة إلى الدكتور و قالت :
– آسفة يا دكتور محمد ، إذا كانت معلوماتي عن بلادي هي مفتاح نجاحي في هذا الاختبار ، فلابد أنني سأفشل فشلا ذريعا فيه ••
نكست رأسها خجلا ، فابتسم الدكتور محمد و قال :
– أولا هذا ليس اختبار ، انه مجرد مقابلة شخصية ، و ثانيا انا لا اسألك عن بلدك لاعرف ما اعرفه و يعرفه الجميع و قد تجهلين انت بعضا منه بحكم نشأتك بعيدا عنها ، و إنما أريد أن أعرف ما لا أعرفه عنها و تعرفينه أنت ، أريد أن أعرفها من خــلال إحساسك بها و ليس من خلال التقارير الأخبارية عنها ، فهل هذا ممكن ، أم أنه صعب بدوره ؟
رفعت إليه وجهها ، كانت تبدو في هذه اللحظة جميلة ، بعيون لامعة و عقل يستشرف شيئا مميزا و عندما تحدثت اكتملت الصورة كما رآها الدكتور محمد بحس الفنان فيه ، فقد خرج حديثها مغلفا في ضبابات شوق بعيد ، و كأنه يخرج من أعماق ملتهبة تتدفق فيها ينابيع الدهشة و الحلم و الرغبة في المزيد ، كان عنقها يبدو طويلا و رأســها مرفوع و ذقنها الدقيق مضموم على طابع الحسن الصغير ، قالت :
– فلسطين كما أعرفها و أحبها ، هي أرضي التي انتمي إليها ، الأرض التي تناديني بشوق و يستجيب إلى ندائها حنيني ، فلسطين هي الدمعة في عين أبي الذي يقتله الشوق إليها ، و هي الارتجافة في شفاهه حين يتحدث عنها ، فلسطين هي الورق المخبوء منذ سنين يحمل عناوين غربة بعيدة و شتات كبير ، هي الوثيقة حين يسمونها بعبارة اللاجئين ، فلسطين هي النبض الدائم في العروق ، و هي الشيء الوحيد الذي يسري مع الدم فيها ••
و تهدج صوت ريم و ترقرقت الدمعات و قالت و هي تنظر للدكتور محمد :
– فلسطين يا دكتور هي ذلك البئر المعطل في ساحة منزل مهجور ، هي بحر غزة و ناسها •• هي الرمز الجميل الذي يحميني من ضياع الذات حين أكون مخيرة بين أن أكون أو لا أكون •••• فلسطين هي الغائب الذي أبحث عنه و أحتاجه ••
و قال الدكتور :
– هذا كل شيء انصرفي الآن
– همست ريم بقلق و هي تشير لما في يدها :
– و اللوحات ؟
فقال الدكتور بغموض :
– اللوحة التي رأيت تشغلني الآن أكثر •• هيا انصرفي ••
و خرجت ريم فقام الدكتور من فوره ، أمسك لوحة بيضاء صغيرة و بدأ يخط فيها بسرعة وجه فتاة شامخة الرأس لها طابع حسن مضموم على تصميم و في نظراتها حنين •••
و صارت ريم طالبة منتظمة في قسم الفنون التشكيلية بكلية الفنون الجميلة ••
ابنة عمي ريم ••
لم أصدق نفسي و انا أقرأ سطور رسالتك الغريبة العجيبة القادمة من المجهول ، لم أصدق أن لي ابنة عم لديها كل هذا الحس المرهف و الرغبة في التواصل و السعي إليه •• كنت أعرف بالطبع ان لي عما اسمه جهاد يعيش في مصر لكنني مثلك كنت أسمع الأسماء و لا أرى الوجوه أو أحس بها ، وصل خطابك في وقت شديد الحرج فأبي الذي أضنته الغربة يحتضر و نحن حوله لا نملك له شيئا ينقذه ، يبدو يا أبنة عمي أن الغربة قادرة دوما على امتصاصنا حتى آخر قطرة و التضامن مع أعدائنا على تهمشينا و ضياعنا •• قرأت الخطاب عوضا عنه ، و شعرت أنه موجه لي أنا و ليس لأبي ، عرفت من خلاله روحا أخرى ضالة تبحث عن وطن •• و فرحت لأننا في عمر واحد تقريبا ، قد أكون أكبر منك بشهور فقط ، لكن الهم واحد يا ابنة العم ، الهم واحد و الهدف واحد ، أراه أنا في العودة الحقيقية للوطن و ترينه أنت في تعليم أعلى تحصلين عليه •• أراه أنا في كفاح مسلح ينبغي أن يبقى و ترينه أنت في صراع مع الحياة ينبغي أن يستمر ••لكن لكلانا نفس الهدف في النهاية •• لقد وقف أبي في طريقي دوما كان يخشى علي مصير مثل مصير عمي محمد ، و لعلك لا تعرفيه ، فلقد أمضى عمي الباسل في كفاح الصهاينة زهرة شبابه ، لم يتزوج و دخل السجن الاسرائيلي مرات عديدة و لم يستسلم و لم ينحرف عن هدفه يوما و في النهاية استشهد في السجن •• هذا آخر ما سمعناه عنه منذ ثلاثة شهور فقط و لعل عمي جهاد لا يعرف و أنتم بالطبع لا تعرفون ••
أما عن عمي بدر فقد بقي بجوار جدتي يعيش و يتزوج الواحدة تلو الاخرى و يصارع الحياة المفروضة يعمل يوما و يجلس عشرة و في كل هذا هو الشاطر الذي لا يشق له غبار في النصب و الاسترزاق و التحايل على المعايش بشتى الطرق ، لديه الآن سبعة أولاد ذكور و خمسة من الإناث و يصر على إكمال أولاده عشرة و معه الآن ثلاث زوجات ، أما نحن فإننا خمسة من الاخوة أنا أكبرهم و بعدي أربع بنات جميعهن يتعلمن هنا في الأردن و معنا الجنسية الأردنية أيضا ••أما أولاد عمي عامر يرحمه الله فهم تسعة و لكنهم متفرقون في بقاع شتى من العالم و لا تعيش هنا منهم إلا هديل و هي بالمناسبة فتاة وطنية و تحب قرض الشعر الحماسي و تحلم بيوم تستطيع العودة فيه إلى فلسطين ••
ابنة عمي البعيدة •• أحب ان تظلي على اتصال بنا و سأترك لك في نهاية الرسالة عنوان شخص مهم ينبغي أن تراسليه فهو على نفس دربنا يسير لم تقتلع منه الغربة الإحساس العميق بالوطن ، إنه من أبناء عمومة أبائنا و يعمل في ليبيا و اسمه سهيل ، و أنتوي إن شاء الله إرسال رسالتك له ضمن رسالة لي أحدثه فيها عنك و عن هدفك في المعرفة ••
صدقيني يا ابنة عمي إنها فقط البداية •• لكنها ــ مهما بحثت ــ هي البداية الوحيدة الصحيحة
ابن عمك
تامر عمر القاسم
طوت ريم الرسالة بعناية و كانت تقرأها قبل قليل للمرة العاشرة على الأقل •• تنازعتها مشاعر متناقضة و عجيبة ، أخذت تتضح و تتبلور مع كل إعادة قراءة و استقرت في النهاية على الشعور الجارف بالرغبة في معرفة النهاية •• أشعــلت فيها الكلمات الحماس و شعرت بعظمة أولئك المغروسين في أرضهم ، شعرت بالفخر أنها تنتمي لعم بطل استشهد و هو بطل ، و حتى عمها بدر لم تشعر بالنفور منه بل استماحت له ألف عذر ، و استوقفها طويلا ذلك التأطير الذي وضعها فيه ابن عمها من ناحية نظرتها لقضية بلادها ، و شعرت أن رسالة ما أصبحت مطالبة بحملها ، و لن يعفيها من حملها أن تكون لاجئة بل على النقيض ربما كان اللجوء هو السبب الأول لحتمية أن تحمل الأمانة ، دعاها إلى هذا حديثها مع الدكتور محمد و رسالة ابن عمها ، و قبل هذا حقيقة انتماؤها إلى الوطن السليب ، و حاولت تقييم وضعها منذ البداية و استغرقها التفكير في هذا الوضع الســـلبي الذي عاشتــه مخيرة ، و شــعرت أنها لابد أن تغــير من وضــعها ما أمــكنها ذلك و تعمق التفكير ليصل بها في النهاية إلى سؤال واحد :" ماذا بوسعي أن افعـل لبلادي ؟ " و لم تجد الإجابة الإ من تهويمة واحدة سيطرت عليها مفادها :" لابد أن أجدها أولا ••"
نهضت بعدها لتستقبل سوسن التي جاءت بكل صخبها كالعادة بادرتها :
– ريم ، افتقدتك كثيرا ، كيف حالك ؟
أجابتها الأم و هي تنظر إليها بلوم:
– لو كانت ريم حقا عزيزة عليك ما اختفيت طيلة هذه المدة ، منذ أول يوم في الجامعة ••
– قالت سوسن بأسف :
– معك حق يا خالتي ، و لكنك لا تعلمي مقدار تأثري بما حدث يومها لريم ، لقد كان الرجل فظا معها و لم أجد في نفسي القدرة على مواجهتها بعدها خشية إثارة حفيظتها ••
– فقالت ريم بتسامح :
– لا عليك يا سوسن ، إرادة الله فوق كل إرادة و الحمد لله على كل حال ••
– فقالت سوسن و هي تتخذ لها مجلسا في صالة المنزل فيما ذهبت الأم لإعداد الشاي :
– و الحل يا ريم ؟
قالت ريم و هي تبتسم :
– الحل هو أن تنهضي من فورك فتحضري لي محاضرات الأسبوعين الماضيين و تشرحي لي بكثير من الاستفاضة كيف هي الدراسة و المحاضرات ، حتى يتسنى لي متابعة الموقف كاملا غدا إن شاء الله عندما نذهب سويا للجامعة ••
صاحت سوسن غير مصدقة :
– ماذا تقولين ؟ هل استطعتم تدبير المال ؟
هزت ريم رأسها نفيا و قالت :
– بل وفقنا الله و استطعنا تدبير كرسي لي في قسم الفنون التشكيلية معك يا سوسن ••
قفزت سوسن فرحا و صفقت بيديها طربا و قالت و هي تقبل صديقتها :
– معا إلى الأبد يا ريم ، معا إلى الأبد ••